+ A
A -
ثمة فرق بين الفكر وحامله، حامل الفكر إنسان والفكر في ذاته حالة قابلة للتبدل والتغير ولكن يبقى حامله في جميع الأحوال إنسانا له جميع حقوق الإنسانية وعليه واجبات يتحملها بصفته كذلك، تعتقد العقلية العربية بعظيم إنجازها حينما تشرع في تصنيف الناس فذاك ليبرالي والآخر إسلامي والثالث حداثي... والخ تستعير من العصر ثقافته وتلبس جلبابه دونما مشاركة فعالة منها في إثراء هذه الثقافة. المشكلة كما أراها في عدم اعتماد البعد الإنساني كمركز تنطلق منه مثل هذه التصنيفات. وإنما تتم الاستعاضة عنه بمركزية أخرى استبدادية تنطلق من الذات المعتقدة بأنها تمتلك الحقيقة الوحيدة ودون ذلك الخروج أو البعد عنها. حتى في مثل هذا الوضع نحن في حالة استعارة وتزوير لتاريخ الغير بصورة يندى لها الجبين، تنسى مثل هذه العقلية العربية أن التيارات الفكرية بأنواعها وأشكالها المختلفة وفي مواطن نشأتها قامت أساساً من أجل الإنسان واستمر منها ما توافق مع ذلك فقط.. فالمركزية أساساً إنسانية الطابع ومن شذ عنها سقط وطردته الشعوب من نافذة التاريخ ركلاً بالأقدام واستمر منها فقط ذلك الذي استطاع أن يعتمد البعد الإنساني في داخل نسقه، الجميع تأنسن ابتداء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، الحراك الاجتماعي هناك المتجه نحو مركزية الإنسان استطاع تحويلها قوة دافعة لبناء المجتمع وليس لإعاقته وتقسيمه كما نرى داخل مجتمعاتنا.
لذلك ثمة حالة من الاصطفاف غير الواعي خلف المصطلحات المستوردة نعجز عن تحريكها أو فهمها في إطارها التاريخي والثقافي فنصل إلى حالة من الانبهار أمامها، نقدسها بشمولية كبيرة ويحملها الواحد منا وكأنها قدر لا فرار منه، الديمقراطية – العلمانية – المجتمع المدني – الحداثة - تاريخية النص وما إلى ذلك كلها إفرازات لجسم آخر مر بتعرجات تاريخية وثقافيــــة لم تشهدها مجتمعاتنا الضعيفـة، رغم عالميتها وإنسانيتها أي هذه المصطلحات وإشكالية مثل هذا الاصطفاف العشوائي والشمولي خلفها يتمثل في شروط أصحابه ضرورة إخراج ما يحتويه بطن وجوف الأمة أولاً من كل تراكماته عبر العصور وإزالة ما علق بهذا البطن وذلك الجوف حتى نسمح لمثل هذا المصطلحات والمفردات أن تدخل وأن تستقر داخله وهو الأمر المستحيل لأنها في الحقيقة وداخل مجتمعاتها أصلا لم تفعل الشيء نفسه وإنما جاءت نتيجة لتوافقات ثقافية وتاريخية وليس استئصالاً وقطعاً حاداً مثل ما يتطلبه من يصطف خلفها أنه بالضبط كمن يشترط عليك قبل أن يحادثك أن تحلق لحيتك أو أن تغير ملابسك.. فجمود الأمة من جمود الفهم لحركة التاريخ والتفاعل الثقافي فمن المعروف أن الأمة إسلامية «أمة» أسسها نص هو القرآن الكريم، هذه حقيقة لا يمكن بحال من الأحوال تجاوزها أو إلغاؤها وإلا سنخرج من نطاق مفهوم الأمة تاريخياً بالمعنى الإسلامي الشمولي «هذه أمتكم أمة واحدة» وأعتقد بأن التشكيك في هذا النص الخالد بين الحين والآخر لا يخدم قضايا الأمة العربية أو الإسلامية لارتباط مفهومي «العرب والإسلام» ارتباطاً لا يمكن فصله بحال من الأحوال واعتماد كل منها على الآخر. فهذا النص ثابت لا يمكن تغييره ولكن الجزء المتحرك في هذه المعادلــة هو «فهمنا» لهذا النص والذي يجب أن يكون حركياً ديناميكياً وهو أمر لا يتعارض مع مفهوم قدسية النص بأي حال من الأحوال، فالأزمة في الأساس أزمة فهم جامد وسيادته على غير من أنواع الفهم الآخر وليست أزمة نص، فالأجدر العمل على تحريك الفهم لدى العقل العربي والإسلامي ضمن البيئة المعاشة لتجاوز مرحلة الجمود والتوقف وانعكاس هذه الإشكالية على واقعنا المعاش المعاصر أورثتنا مشاكل نفسية جعلتنا نتبنى ميكانيزمات الدفاع لمحاولة تبرير واقعنا المعاصر. فاستحضار أمثلة من ماضينا المجيد لنرشق بها إنجازات الحضارة الغربية الإنسانية على وجه الخصوص أسلوب عجز وخطأ كبير يتمثل باستبدال الحاضر بالماضي وإلغاء لدور النقل النقدي الذي ترتكز عليه الحضارة المعاصرة. إن دخولنا عصر العلم والاتصالات يظل ناقصاً ما لم تدخله البنية الثقافية أيضاً. وبغير اعتمادنا على العقلية النقدية والتركيز على خلق مهارات التفكير النقدي في برامجنا التعليمية سنظل خارج الإطار التاريخي لعصر التقدم وأن عايشناه على استحياء كمستهلكين وزبائن.. فالأزمة عميقة وعلاجها يتطلب تغييرات في البنى والقوالب الفكرية وهي أمور في منتهى الصعوبة ولكنها تصبح حتمية إذا ما أردنا تفعيل الحاضر بدلاً من تقديس الماضي.
بل مع الأسف تمثل مناهجنا التعليمية تكريساً لهذه الأزمة حيث لا تزرع الرؤية العقلية النقدية لدى الدارسين وبالتالي يصبح النقد وهو سمة إنسانية ممارسة خاطئة في الظلام وخلف الأستار أو بعد فوات الأوان أو يتحول إلى عواطف جياشة بكائية وقد ينتج عنها بعد ذلك تصرفات وردود أفعال تزيد من هلاك الأمة. فهل يعقل أن تمر هذه الأمة على الأقل في عصرها الحديث بكثير من الأزمات والمصائب وتغلب عاطفتها الجياشة على عقلها النقدي وتحمل بالتالي غيرنا مسؤولية فشلنا وتراجعنا.
إذا كان هناك ثمة ما يمنع من غرس مفاهيم التعليم العصري والذي يقدم على مبادئ ومفاهيم العقل النقدي في النظام التعليمي العربي لأهداف سياسية واحتكار المعرفة الكاملة لدى الرموز وتكريس مفهوم الرعاية الأبوية وتعميمه على جميع الأصعدة فإن العصر الحالي ضد التوقع والتشرنج والمسايرة القشرية لهذا العصر والمتمثلة في الحوارات وممارسة النقد من خلال انفتاح الفضاء الإعلامي قسراً على العرب والمسلمين لا تجدي في التعويض على إصلاح النظام التعليمي بل أن أغلبها اجترار للتاريخ ورؤية متأخرة للأحداث تحتمها المراحل العمرية للأشخاص من حيث المطلوب تعويد النشء الجديد على النقد الهادف البناء إن عدم تأصل العقلية النقدية داخل النسيج الثقافي العربي جعل الإنسان العربي مرهوناً بالجاهزية الفكرية المستوردة ويعيش بين مرحلتين على طرف نقيض، مرحلة يتطلب منه فيها الصمت والتصفيق ولو على مضض وبدون اقتناع ومرحلة أخرى متأخرة يصبح فيها خارجاً عن النظام والقانون بمفهوم المجتمع الأبوي والأدهى من ذلك أنه قد يستعان بـ«النص» لإثبات خروجه ومروقه وذلك عود لملامسة جرح الأمة القديــم الذي لم يلتئم بعد، واصطفاف آخر خلف صنمية المصطلح.
عبدالعزيز بن محمد الخاطر
copy short url   نسخ
22/08/2016
1039