+ A
A -
يلجأ الطغيان كثيراً إلى القمع الصحفي كواحد من الأدوات التي يستعملها في محاصرة الحرية. فالصحافة، المقروءة والمكتوبة والمسموعة، ما لم تطوع تتحول إلى أشد خصوم الطغيان لأنها نشأت في الأصل للدفاع عن الحرية وتداول المعلومات والتعبير عن الرأي والإعتراض بشكل سلمي متحضر. لكن تلك الأهداف النبيلة لا ترضي من يكرهون الحرية. وهؤلاء ليسوا بقليلين خاصةً في البلدان قليلة التمدن السياسي، التي اعتادت على قمع الكلمة والقصاص ممن يكتبها أو ينطقها والتنكيل بوسائل الإعلام التي تنشرها.
وليس للقمع الصحفي حدود. فقد يتراوح بين التوبيخ الفردي والتربص بأحد الصحفيين إلى قمع المهنة بأكملها وإغلاق الكيان التنظيمي الذي يرعى مصالحها. كما قد يكون بسيطاً ينجو من يتعرض لشره بسلام، أو شديداً تترتب عليه عواقب وخيمة. هناك إذا جاز التعبير قمع أصغر يحجب على سبيل المثال مقالاً أو يُغير عنواناً أو يُعدل صياغةً أو يلفت نظراً أو يوجه إنذاراً أو يخصم راتباً أو ينقل محرراً. وهي صور لا تساوي شيئاً أمام القمع الأكبر الذي قد يصل إلى حد الفصل والسجن وتشويه السمعة والنفي والإبعاد بل والقتل والتصفية الجسدية.
وطالما أن هناك من يكرهون الحرية فلا بد أن تخرج بين الفينة والأخرى أفكار جديدة تسوغ قمع الصحافة. وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخراً خبراً لافتاً من جمهورية طاجيكستان التي أعلنت عن عزمها فرض غرامة مالية تتراوح ما بين 75 إلى 90 دولاراً على كل صحفي يستخدم كلمات مبهمة لا يعرف القراء العاديون معناها وغرامة أخرى أكبر تصل إلى 200 دولار على أية مؤسسة صحفية تسمح بذلك. وجاء الإعلان عن هذا القرار على لسان رئيس لجنة «مصطلحات الدولة»، السيد «جعفر شريفزاده»، الذي أوضح أن هدف تلك الغرامات هو الحفاظ على قواعد الكتابة الرسمية وأعراف اللغة لأن هناك، كما زعم، صحفيين يستخدمون في بعض الأحيان عشر كلمات صعبة لا يفهمها القراء أو المشاهدون أو المستمعون العاديون.
ولأن طاجيكستان تُصنف وفق مقياس حرية الصحافة لمنظمة «فريدوم هاوس» ضمن فئة الدول غير الحرة مسجلة 83 درجة من مائة، فالأرجح أن الهدف من تلك الفكرة المبتكرة لا يتصل بإنصاف القراء والمشاهدين والمستمعين العاديين الذين كان بالإمكان تركهم يستفسرون ويبحثون عن معنى تلك الكلمات ليتثقفوا، وإنما ينبع من قناعة راسخة بضرورة توفير كل وسيلة لإسكات أي صوت مختلف عندما يلزم الأمر.
وتبدو الصورة هزلية برغم الجدية المتوقع أن يجري تنفيذ القرار بها. فمتوسط دخل الفرد في طاجيكستان يصل إلى 2700 دولار سنوياً. ولا يعرف أحد هل غرامة التسعون دولاراً ستفرض على الكلمة الواحدة أم عندما يصل عدد الكلمات «الغريبة» إلى عشرة. وسوف تكون الغرامة باليقين كارثية على الصحفي لو تم الحساب بالكلمة. فلو استعمل كاتب مثلاً خمس عشرة كلمة «غريبة» لوجب عليه أن يسدد غرامةً مقدارها 1350 دولاراً، أي نصف دخله السنوي تقريباً. ثم من يحدد ما إذا كانت الكلمة المستعملة «غريبة»؟. هل كلمات مثل «حرية»، «وليبرالية»، «ومجتمع مدني» كلمات غريبة؟ وفوق هذا وذاك أليست وظيفة الصحافة تثقيفية تفرض على من يقومون بها تقديم الجديد وتعريف الناس بما لم يسبق لهم معرفته؟ إن مثل هذه الأفكار المبتكرة لن تؤدي إلا إلى قتل الإبداع وإشاعة الرداءة وخلق صحافة لا صحافة فيها. صحافة مكبوتة تمنع التنوع وتعاقب حتى على اختيار الكلمات التي يعبر بها الناس عن آرائهم.
وبرغم جرأة بعض الصحفيين على تحدي مثل هذا اللون من التكميم، إلا أن الموجة العالمية الصاعدة حالياً للسلطوية سوف تستمزج الفكرة لتبرر القمع الصحفي باسم الأمن وتصادر الكلمة بداعي الحفاظ على النظام والاستقرار. وسوف يعاني الصحفيون أكثر بالذات في الدول التي لا تعرف جوهر التمدن السياسي. سوف توضع أمامهم العراقيل وتفرض عليهم قيوداً صارمة ستدفع أكثرهم إلى البحث عن الأمن الفردي إما بالركون إلى الكلام الساكت والعبارات المجففة أو الأسوأ إلى الغرق في المنافقة والرياء.
ستظهر صحف جديدة وستنطلق محطات عديدة لكنها لن تضيف للتنوير والتنوع والتسامح والحرية شيئاً ملموساً. فمثلما أن العقل الحر يبحث عن منافذ مبتكرة للإنتصار للحرية، فإن العقل السلطوي لا يكل هو الآخر في إبتكار حلول تبرر القمع وتزينه. إنه تدافع لن ينتهي وصراع لن يتوقف يُبقي الصحافة باستمرار مهنة المتاعب.
د. ابراهيم عرفات ..
copy short url   نسخ
22/08/2016
1606