+ A
A -
للمرة الألف تثبت مقولة أبي تمام الشهيرة «السيف أصدق إنباء من الكتب» صدقيتها التاريخية وبعدها الاستراتيجي! وقد زاد أبو تمام في الشطر الثاني من البيت الشعري الشهير فقال «في حده الحد بين الجد واللعب»، فعلا في حده الحد بين الجد ومفاوضات جنيف! في حده الحد بين الجد وحكومة الائتلاف! في حده الحد بين الجد وثنائية كيري- لافروف! حاصرت قوات نظام الأسد ومعها الطيران الروسي والخبراء الروس والحرس الثوري الإيراني وآلاف من الميليشيات الطائفية حلب الشهباء فشارك أهلها جميعا في فك الحصار مستخدمين الدواليب وأسلحتهم البدائية وبيض الصفائح وتركوا سود الصحائف لمن مازال لديهم أمل في عدالة الغرب وضمير المجتمع الدولي!
قبل أسبوع واحد فقط طوق نظام الأسد وأعوانه الأحياء الشرقية من حلب التي تضم المعارضة السورية بعد السيطرة على طريق الكاستيلو بالكامل وارتفعت معنويات أصدقاء الأسد إلى درجة أنهم أعلنوا عن اتفاق ثنائي بين وزير الخارجية الأميركي كيري ووزير الخارجية الروسي لافروف بعيدا عن الشعب السوري صاحب المشكلة وصاحب الحل! لقد اعتقدوا أن بإمكانهم فرض ما يريدون على هذا الشعب الأعزل الذي تنكر له العالم بجمعياته المدنية ومنظماته الحقوقية لكن حصل ما لم يكن في الحسبان! وماعلموا أن معه السيف والقرآن!
لم تكن الحسابات العسكرية المتحفظة تتوقع أن يتمكن ثوار حلب من فك الحصار عن مدينتهم وهم لا يملكون سيطرة على السماء حيث طغى الطيران الروسي وتجبر ومارس القصف العشوائي الأعمى بهدف كسر إرادة الناس وفرض الهزيمة النفسية قبل بدء المفاوضات المجحفة من جديد! وزاد على هذا القصف الإجرامي تشديد الحصار على الناس بمنع الغذاء والدواء وعلى المقاتلين بمنع الأسلحة والذخيرة إضافة إلى ممارسة الضغوط العسكرية والسياسية لتركيع حلب وأهلها! لقد تراكمت شرور الطغيان الروسي والمكر الأميركي والحقد الطائفي ووحشية النظام وبلادة المعارضة السياسية وبرودة أصدقاء سوريا لتفرض حسابات الاستسلام، لكن حسابات الحقل الإيماني خالفت حسابات البيدر العلماني!
ستة أيام فقط كانت كافية لفك حصار حلب وتقويض الخطة السياسية التي بنيت على نتائج الخطة العسكرية وليبدأ الأعداء من جديد! فالثورة السورية بعد فك الحصار عن حلب ليست مثلها قبله! لقد جاء الرد العسكري من الثوار السوريين حاسما رغم صعوبة الأوضاع لكن اختيارهم للحلقة الأضعف في الطوق (جنوب حلب) ساهم كثيرا في سرعة الحسم كما أن مشاركة أهالي حلب كانت لها دور معنوي فاعل خاصة في قصة حرق الإطارات وفرض منطقة حظر جوي ذات بعد معنوي لا يقدر بثمن!
قبل معركة فك الحصار عن حلب كانوا (أميركا وروسيا وبيادقهم) يريدون الاتفاق على (شيء ما) بعيدا عن الشعب السوري ومضى جون كيري إلى أوروبا يحدثها عن الترتيبات الجديدة بدون استشارة أو أدنى اعتبار للمعارضة السورية أو للشعب السوري سواء في المدن المحاصرة أو في المهجر الكئيب أو حتى في سفن التهريب! أما بعد المعركة فالوضع مختلف واللهجة تغيرت حيث حفلت التصريحات الأولى للخارجية الروسية وزميلتها وحليفتها الخارجية الأميركية بالدعوة للهدنة ووقف إطلاق النار! إنهم يمارسون نفس أدوارهم القديمة بسرقة الثوار وإخماد الزخم العسكري للطرف الآخر وهو عادة الطرف العربي! لا أحد يصدق أن دعواتهم لوقف إطلاق النار في هذا التوقيت جاءت لمساعدة الناس ولا الشعب السوري بقدر ما هي محاولة لشق صف الثوار وتفكيكهم!
تحمل معركة فك الحصار عن حلب الكثير من الرمزية وتباشير النصر رغم صعوبة الحرب وشراسة الأعداء! لمدينة حلب نفسها رمزية طاغية في التاريخ الإسلامي فهي ثغر مهم من الثغور الصامدة في الحروب الصليبية القادمة من الغرب وكذلك في الحروب الطائفية القادمة من الشرق وها هي عادت لتؤدي الدور ذاته وتنتصر! ومن اللحظات المهمة في تاريخ حلب أن هجمة التحالف الفاطمي الصليبي تكسرت على أطراف قلعتها الشهيرة، فهل التاريخ يعيد نفسه؟ وللشعب السوري وثورته المستمرة ذكريات رمزية معبرة مع كلية المدفعية في حلب حيث كان اقتحامها بداية لفك الحصار عن المدينة كما كان اقتحامها من قبل بداية للثورة السورية المستمرة على الاستبداد الطائفي المقيت!
رغم أهمية ما تحقق في معركة فك الحصار عن حلب ورغم أهمية حلب من الناحية الاستراتيجية بأبعادها المختلفة التاريخية والرمزية والاقتصادية والديموغرافية واللوجستية والمعنوية، إلا أن الحرب الكبيرة لم تضع أوزارها بعد! ولعل أصعب وأخطر ما في هذه الحرب هي حالة الاستفراد الروسي الأميركي المشترك وتحويلهم الدول الأخرى المتورطة أو المهتمة إلى كومبارس بل وتحويلهم أطراف الأزمة نفسها إلى أوراق لعب، ولا تسأل عن الوجع الإنساني!
فاصلة:
حلب التي تأخرت في الدخول إلى ربيع الثورة السورية لمدة سنتين أصبحت اليوم هي البوصلة التي تحرك ثورة السوريين وتؤثر على مسارها بشكل كبير.
د. صنهات بن بدر العتيبي ..
copy short url   نسخ
09/08/2016
3786