+ A
A -
تصدر عن قيادات رفيعة المستوى في الإدارة الأميركية تصريحات، يصعب المرور عليها مر الكرام، فهي تحمل رسالة سياسية للعالم، كما أنها لا تأتى فرادى، أو تعبيرا عن حالة قائمة بذاتها، بل إنها جزء من تراكمات كحلقات في سلسلة واحدة، وتعبر عن معنى واحد.
آخرها ما أعلنه الجنرال توماس والدهاوزر قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، من أن الولايات المتحدة لا تملك استراتيجية عالمية محددة للتدخل في ليبيا.
وقد سبق هذا بعامين، أن أعلن أوباما أن بلاده لا تملك استراتيجية لمواجهة إرهاب داعش. ثم خرج بعدها بأيام بإعلان يعدل فيه عن موقفه، ويدعو لتشكيل التحالف الدولي لقتال داعش. وهو تصرف فسره محللون أميركيون بأنه دليل على تناقضات أوباما، وفقدانه الرؤية الاستراتيجية بالتعامل مع قضايا وأزمات العالم.
اللافت للنظر أن هذه المواقف الأميركية، تأتى على النقيض تماما مما كانت الولايات المتحدة، في عهود رؤساء سابقين من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى التسعينيات، تملكه من استراتيجية عالمية GRAND STRATEGY تعرف أهدافها، وتتوفر لها إمكانات وآليات للتنفيذ، قلما تخطئ في تقديراتها، أو في نتائج عملياتها.
في تلك السنوات الماضية، دشنت الولايات المتحدة، استراتيجيتها العالمية للسياسة الخارجية، من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ابتداء من عام 1947، والتي استمر العمل بها لأكثر من خمسين سنة. وهي الاستراتيجية التي أقيمت على مبدأ احتواء الاتحاد السوفياتي في مناطق نفوذه في العالم، والتي بنيت عليها أسس السياسات الخارجية والدفاعية.
وطوال هذه السنوات، استندت الاستراتيجية الأميركية، على مخزون من أهل الخبرة والتخصص المرموقين، العارفين تماما بالاتحاد السوفياتي واستراتيجياته، وبكل الدوائر الإقليمية والدولية التي يدور فيها الصراع بين القوتين الكبيرتين.
كانت استراتيجية الاحتواء هي المبدأ الذي تتحرك به السياسة الخارجية الأميركية، ومع انتهاء الحرب الباردة، وحدوث تحولات هائلة في بنية النظام العالمي، فقد وجد فراغ غير متوقع في عالم الفكر السياسي الأميركي، وشعور بالحاجة إلى مبدأ جد يشغل مساحة هذا الفراغ.
ودخلت الولايات المتحدة بعد ذلك في عهود عدد من الرؤساء – بوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن، وأعلن في 20 سبتمبر 2002، استراتيجية جديدة للأمن القومي، والسياسة الخارجية، لكنها كانت استراتيجية منفصلة عن الواقع الدولي الذي تغير كلية، فلم يقدر البقاء، وسقطت بعد 6 سنوات من إعلانها، في مواجهة رفض جماعي من النخبة صانعة السياسة الخارجية.
ثم جاء أوباما في ظروف تصاعد تيار داخلي قوى، رافض لاستراتيجية بوش الابن ومطالبا بالتغيير بما يتوافق مع العالم المتغير، وهو ما استغله أوباما، بأن رفع لحملته الانتخابية شعار التغيير. لكنه لم يكن هو من ابتدع الشعار، وليس مقتنعا تماما بمعناه، فقد افتقد بعد دخوله البيت الأبيض، الرؤية التي تسمح له ببناء استراتيجية جديدة ومتكاملة، لها مبدأ واضح ومحدد. ووجد نفسه أسير عقيدة سياسية تقليدية راسخة في العقل السياسي الأميركي، مضمونها أن عوامل الاستمرارية في السياسة الخارجية، أقوى وأكثر من عوامل التغيير، فبدأت تناقضاته بالميل الشديد نحو الاستمرارية على حساب التغيير، وهو ما عكسته التصريحات عن: أننا لا نملك استراتيجية للتدخل في ليبيا، وقبلها: أننا ليست لدينا استراتيجية للتعامل مع إرهاب داعش، ثم التراجع بسرعة عن هذا القول.
إن الولايات المتحدة كانت تعتبر نفسها قيادة العالم في سنوات الصراع الأميركي السوفياتي، وكان يبرهن على هذه النظرة، استراتيجية الاحتواء، بما تشمله من اطر لعلاقتها الدولية، والتزامات تجاه الدول التي اعتبرت نفسها ضامنة لأمنها، وداعمة لاستقرارها، ولهذا فإن اعترافها بفقدان الاستراتيجية العالمية تجاه قضايا متعددة، يفترض أن لها تجاهها دورا ومسؤولية، إنما يضع أميركا في مأزق تاريخي، يقلص من الاعتراف العالمي لها بقيادة العالم، وهو أمر لا تزال إدارة أوباما تتشبث به، بمختلف الوسائل.. لكن مثل هذه القيادة لها مواصفات وشروط، وهو ما كان موجودا طوال عملها تطبيعيا، باستراتيجية الاحتواء التي استمرت لأكثر من خمسين عاما.
عاطف الغمرى
copy short url   نسخ
29/07/2016
2845