+ A
A -
أوحت المحاولة الانقلابية قبل اعلان فشلها، أن تركيا لا تزال بعيدة عن الغرب الديمقراطي. لكن اسقاط الانقلاب ورد فعل النخبة السياسية والحزبية والاعلامية وغالبية الشعب التركي عليه دل على أن هذا البلد يبتعد أيضاً عن «العالمثالثية» ومحيطه الشرق الاوسطي الذي لا تزال بعض دوله تحكم بقبضة العسكر.
الأحزاب العلمانية والقومية، على رغم ما يجمعها بـ «اتاتوركية» الجيش، نددت بالانقلاب، لانها تدرك في صميمها ان ديمقراطية ليست على قياسها افضل لها ألف مرة من حكم عسكر يستبد بها ويعليها متى شاء ويلغيها متى شاء. والأكراد على رغم حربهم مع حكومة اردوغان لم يؤيدوا انقلاب الجيش، لان الصدام مع البديل اكثر وطأة عليهم من الصدام مع خصمهم الاصيل.
وعندما نزل الأتراك إلى الشارع بشجاعة في مواجهة دبابات الانقلابيين، وعندما عارضت النخبة السياسية التركية، حتى أشدها كُرهاً للرئيس، محاولة الانقلاب، وعندما وقفت معظم المؤسسة العسكرية التركية ضد الخارجين من صفوفها، وعندما اصطفت الشرطة والقوى الأمنية التركية بصلابة، ضد الانقلابيين، لم تفعل ذلك فقط، كُرمى لعيون «بابا طيب»، هم نزلوا كُرمى لأمرين: الأول، طعم الديمقراطية اللذيذ الذي حينما تستسيغه الشعوب، لا تهضم بعده طعم الفوضى والانقلاب وحكم العسكر، مهما كانت مسوغاته، والثاني، طعم الانتعاش الاقتصادي الناجم عن انتخاب «الأفضل» وكلمة «صناديق الاقتراع»، حين يمكن للرأي العام أن يُصوّب السياسات، ويرغم على الحذر في اتخاذ القرارات.
للشعب التركي ولمؤسساته الديمقراطية والحزبية والسياسية الآن دين كبير في ذمة اردوغان، وهؤلاء سيسألون عما إذا كان الرئيس سيلتزم القواعد الديمقراطية وينحو نحو الوئام ولم الشمل والوحدة، أم أنه قد يتخذ الانقلاب ذريعة لتصفية خصومه السياسيين والعقائديين مثل انداده الانقلابيين؟
قد يخطئ اردوغان كثيرا إذا استنتج أن فشل الانقلاب هو انتصار لشخصه هو وليس لتركيا ولمؤسساتها وللتحول الديمقراطي العميق الذي حصل في مجتمعها. ولعل تصريحه الاول بعد الانقلاب بان فشله هو «هدية من الله» للتشفي وتطهير المؤسسات على انواعها من المعارضين، جرس انذار لن يستسيغه أنصار «الربيع التركي» الذي يريدونه مستمرا وحيويا يبحث دائما على الافضل للبلاد والناس وليس على الطريقة «الربيع العربي» الذي اصابه الجفاف قبل ان يزهر. ولعل ما يقلق هؤلاء الشراهة للحكم الفردي تصميم اردوغان على الافادة من الفرصة التي أتاحها فشل الانقلاب لاستكمال مشروع سيطرته على الدولة وتوسيع صلاحيات منصب الرئاسة، بحيث يحول النظام التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، انطلاقاً من شعوره بأنه الأب الذي يعرف مصلحة أبنائه الأتراك أكثر من أي سياسي آخر!
طريق كهذا سيكون محفوفاً بالأخطار إذا سلكه الرئيس التركي، لان الآن من مصلحة تركيا أن يتحول الالتفاف الوطني الذي ظهر حول الشرعية والمؤسسات السياسية المنتخبة فرصة لتوفير أكبر قدر من الإجماع حول المصلحة العليا للدولة، لا حول مصلحة شخص واحد أو حزب بعينه. فأي سلوك انتقامي لن يؤدي سوى إلى زيادة الشرخ داخل المؤسسات، والذي كان الانقلاب الأخير أحد عوارضه. وإعادة تركيا إلى «العالمثالثية» ليست خسارة لها وحدها بل لنا جميعا.
أمين قمورية
copy short url   نسخ
20/07/2016
2178