+ A
A -
التنظيرلوجيا مصطلح جديد فرضته فكرة هذا المقال.. وهو عـلـم برع فيه العرب وأدعياء الفقه وأنصاف العلماء على وجه الخصوص..
وأقول (عـلـم) من باب التجاوز كـونه يكتفي بالتخمين وغلبة الظـن وإمعان النظر دون جهد أو دراسة أو إجراء أبحاث وتجارب.. يختلف حتى عن الفـلسفة في تجاهله لتقييم العقل والاستدلال بالمنطق واستقراء الواقع.. لا يحتاج فيه الإنسان إلى معامل علمية أو ميزانيات بحث خيالية أو تجارب على عينات ميدانية، يكفي فقط أن يتأمل ويتفكر ويمعـن النظر ليكتشف أن الأرض ساكنة، وأن قيادة السيارة تـتلف المبايض، وأن العادة السرية تجلب العمى، وأن أكل الخـنزير يسبب التخنث وقلة النخوة وتضخم أثداء الرجال.
كنا سنرحب بكل هذه الاكتشافات الخارقة لو قامت على دراسات جادة أو تجارب محكمة أو أبحاث سريرية موثقة.. كنا سنرحب بها لـو اعتمدت على إحصائيات واقعية أو دراسات ميدانية ثـبت حدوثها حتى في الدول البعيدة.. ولكنها للأسف مجرد أكاذيب (وفي أفضل الأحول أوهام) تعتمد على منزلة قائلها ومدى مهارته في إسدال ثياب الدين على أفكار لم يسبقه بها أحد من العالمين..
لاحـظ بنفسك كيف أن معظم أبحاثنا وفتاوانا -ناهيك عن كتب التراث لدينا- يغلب عليها الجانب التنظيري والتخمين الشخصي.. خذ كمثال كتاب ضخم مثل «البداية والنهاية» لابن كثير لتكتشف أنه يتضمن تفسيرا لكل ما حدث في الدنيا (من البداية إلى النهاية) في حين أن الرجـل لم يغادر بيـته فعلياً ومات في القرن الثامن للهجرة.. يتحدث عن كيفية تشكل الكون والنجوم والأجرام-وكيف سينتهي الكون والنجوم والأجرام-دون أن يملك حتى تـلسكوبا صغيرا يتيح له رؤية أقرب الكواكب للأرض.. يـبدأ بآيات محكمة من القرآن الكريم ولكنه ينتهي إلى نتائج شخصية واعتقادات شعبية لا تغني عن الحق شيئا.. يـبـدأ بمفاهيم دينية متفق عليها ثـم ينتقل بالتدريج للأحاديث الموضوعة والآراء الفلكلورية وأساطير بني إسرائيل.. ينقل عن التوراة كمثال قوله: والذي دل حواء على الأكل من الشجرة هي الحية وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلت حواء عن قولها، وأطعمت آدم عليه السلام، وليس فيها ذكر لإبليس فعند ذلك انفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان، فوصلا ورق التين وعملا ميازر (ثم يستشهد برأي شخصي لوهب بن منبه) يقول فيه: وكان لباسهما نورًا يغطي على فرجه وفرجها (وأنا أقول: وكيف علمت بذلك وعلى أي نص شرعي اعتمدت رحمك الله؟!)
... هذا الأسلوب التنظيري استمر معنا حتى هذه الأيام وما زلنا نلمس آثاره في معظم الفتاوى التي تُحرم الأشياء (ليس اعتماداً على نص ورد في القرآن والسنة) بــل اعتماد على التخمين والتصور وغلبة الظن وتأثير البيئة الثقافية للفقيه.. يكفي أن تقرأ الفتاوى المعاصرة أو تفتح القنوات الدينية لتشاهد محاولات الخلط المذهلة بين النصوص الشرعية من جهة، والأبحاث العلمية والطبية الحديثة من جهه أخرى..
... أيها السادة؛
التنظيرلوجيا ليست علماً (وإن ألصقتها بـالمقطع لوجيا) كونها تعتمد على الظنون الشخصية والأساطير الشعبية التي- للأسف- تزداد رسوخاً وقدسية بمرور الزمن حتى يظنها الناس جزءا من الدين.. فـما الهدف من العنعنة والإكثار من حدثني فلان عن فلان عن فلان (دون الانتهاء إلى مصدر واضح وصريح) إلا محاولة توثيق بائسة لأفكار أكثر بذكر أكبر عدد من الأسماء التي لا نعرفها فعلاً.
الاكتشافات العلمية والدراسات الحقيقية الدقيقة لا تحتاج إلا لمصدر واحد واضح ومباشر (ومثال ذلك الخبر الذي قرأته قبل أيام عن اكتشف الأطباء في الكلية الملكية في لندن طريقة لإعادة إنماء الأسنان لدى كبار السن).. أما حين نتحدث عن تسبب القيادة بتلف المبايض، أو العادة السرية بضعف البصر، أو ثبات الأرض وتسطحها فـمن حق العالم أن يطالبنا بـالدليل، وطريقة البحث، ومنهج الدراسة..
باختصار
يمكننا تقبل «التنظيرلوجيا» في مدارس الأدب والفن كونها تعتمد على العاطفة والذائقة البشرية.. كما يمكننا تقبلها في المقالات التنظيرية التي تعتمد على التقريع و«الطقطقة» دون جهد أو إيراد مصدر؛ ولكن أن تكون عماد الدراسات والتخصصات (التي ندعوها علمية أو أكاديمية) فـهذا خداع للذات، وتغييب للمنطق، وركض في الاتجاه الخاطئ.
فهد عامر الأحمدي
copy short url   نسخ
20/07/2016
2522