+ A
A -
ليس مأزق اليوم في واقع التبني (للنظام) الديمقراطي، في مآل دول عالم الجنوب في آسيا وأميركا اللاتينية وفي إفريقيا، وفي الوطن العربي وغيره من مناطق العالم فقط، ولكنه أيضاً يمتد إلى الغرب حيث منشأ الفكرة الديمقراطية، حين نناقشها في إطارٍ سياسي محدد خلصت إليه التجربة الديمقراطية، وكانت أبرز وسائط الدولة المدنية الحديثة، فاليوم يصعد اليمين الفرنسي أمام إحباط شديد في الرأي العام الشعبي، الذي وجد نفسه أمام إعادة سيناريو ماكرون، المشمول بالغضب الشعبي وبإخفاقاته، التي سحقت حركة السترات الصفراء، ولكن لم توجد بديلاً إصلاحياً يُهدّئ قلق الفرنسيين.
وفي الحالة الأميركية، فإن ما اعتُبر صحوة دستورية، منعت استمرار الظاهرة الترمبية عادت للتضاؤل، أمام عودة خطاب ترامب وشعبيته، وقس على ذلك اليمين المتطرف في عدة دول غربية، لكن هنا يبرز سؤالٌ اعتراضي مهم، إنها الديمقراطية هكذا تنتج وهو ما يجب أن يُقبل أياً كانت النتائج.
دعونا في البدأ ننظم موقع العربة والحصان في تقييم السؤال، هل الهدف من الفكرة الديمقراطية، هو ميدان يصعد فيه التصويت لصالح منبر خطابي، أو فكرة شعبوية أو ردة فعل عاطفي، أو حتى خطاب جدل عقلاني في التنظير، فهنا الديمقراطية تفتح أبوابها لمن يأخذ أصواتاً في سقف مطلق، لا يحده شيء، ثم يتولى الحكم عبر قوائم التصويت، التي قد يتشكل فيها الرأي من خلال السوشل ميديا، أو من خلال موقف انفعالي قبل الوصول إلى الصندوق.
هنا نحن نستدعي خاصة في النموذج الأميركي والغربي، وحتى في الهند ودول المعسكر الاشتراكي وروسيا، ومهرجانات الوطن العربي التي تتحجج بالصندوق الديمقراطي، أن التأثير على أصوات الناخبين، يقوم على المال الدعائي أو على التهديد المباشر.
الفارق هنا بين دول القمع وبين دول الحريات السياسية، هو أن هناك قانونا ملزما لأجهزة القضاء وللقوة الأمنية، لحماية الرأي وموقف الناخب، هذا بالعموم، وإن بقيت مساحات اختراق، وبالمقابل نجد أن الكوميديا السوداء للمستبدين في الوطن العربي، تحولت إلى فلكلور دموي عنيف صاخب باسم الديمقراطية.
لكن هذا الجانب الإيجابي لحماية حق التعبير، مرتبط بالعقد الاجتماعي الدستوري، وقوته في التشريع والتنفيذ، فهل العقد الاجتماعي الدستوري هو من أصّل الفكرة الديمقراطية، أو أنهُ أحد جوانبها التي ورثت من عهود قديمة، ووصلت عبرها الدساتير الأخيرة، إلى منظومات التوافق الاجتماعي الشامل لكل أفراد المجتمع وشرائح الشعب، بهدف أن تُحكم عبر العدالة السياسية.
هذه العبارة الأخيرة هي العربة وأما الحصان فهو المهمة التي تقود لهذا الهدف، وهو كهدف مركزي يشمل العدالة في توزيع الثروة والمساواة، هذه المساواة تخضع في الأصل كما يُفترض، لميزان القيم الذي يخدم المركز الأخلاقي في المجتمع، ويُحيي ضمير الفرد، ويُقيّد ما يؤثر على مصالح الجماعة، وهي قضية تداخلت بصورة كبيرة في كتاب روسو في عقده الاجتماعي، وبالذات في مبررات تثبيت هذه المبادئ.
فهل هذه العربة التي تُحقق التوازن الاقتصادي، وحق التعبير السياسي، وحفظ حقوق الشخص، يلزم منها أن تفتح حرية التعبير لمهاجمة قيم المجتمع أو مصالحه الجمعية، أو انتماء الفرد، في انتماء الفرد هناك نصوص قانونية في الديمقراطية الحديثة، تضبطها نصاً مع صراعات كبيرة لم توقف زحف اليمين العنصري، ولا كفاح (الملونين) بحسب المصطلح الذي أورثنا إياه، في جدليات الدولة المدنية الحديثة، أما في المرجعية الأخلاقية للشعوب فلا يوجد إلا ما تحدده (قيم) الحداثة المستمرة السيولة.
وعليه فالهدف في الأصل نظام سياسي يضمن حرية الفرد، تحت منهج قيمي وأخلاقي، ومرجعية تشريعية، تتحقق بها الشراكة الشعبية التي تُعبّر عن ضمير الجماعة ومصالحها، وليس السباق بحشد التصويت، ما يجري اليوم هو تدخل معاكس، سواء في موقف الدول الغربية من دول الأطراف، وقمع مشاريع الكفاح للتحرر الوطني، والوصول إلى نظام عدالة اجتماعية، أو تسخير التحجيم أو التهميش في داخل الدولة الغربية الديمقراطية، ضد القوة التصويتية التي تمثل خطراً على عجلتها الرأسمالية المتوحشة.
هنا نلحظ أن هذه المركزية الغربية للديمقراطية الحديثة، باتت سوراً دكتاتورياً ضد مصالح الفرد إذا كان خارج شركتها الرأسمالية، رغم أن دورات الديمقراطية تتكرر، حيث يستَنسخ المستبد الروسي أو الهندي أو العربي أو الإفريقي وغيرهم، فكرة الصندوق والتصويت، فأضحت الشعوب ضحية في حقوقها وقيمها، بين نُسخ الديمقراطية، في ذات الوقت بات المستبد الشمولي المطلق، يُعزّز قمعه على شعبه، بحجة فوضى الديمقراطية، هذه مقدمة فلسفية أساسية للتفكير في مآلات التجربة لإصلاحها، وليس لإسقاط محاسنها.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
08/05/2022
1530