+ A
A -
خولة مرتضوي
إعلامية وباحثة أكاديمية
إنّ الإسلام عقيدة وفكرا سبق غيره من الأديان والأنظمة في سنّ مبدأ (اللين والتسامح واللاعنف) الذي أخذه عنه الفكر الغربي المعاصر والحديث، وكان لهذا المبدأ، الذي عمل المسلمون على نشره في أرجاء العالم؛ دور كبير في تقدّم المسلمين وازدهار حضارتهم الإنسانيّة، فالتسامح أدّى إلى اللين في القول والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلّة بالتي هي أحسن، يقول عزّ وجلّ: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلّا بالّتي هي أحسن إلّا الّذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإل?هنا وإل?هكم واحد ونحن له مسلمون)، ويقول الله في سورة آل عمران: (فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين)، ويقول الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، وجاء في سورة فصلت قول الله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم).
وأدّى التسامح كذلك إلى الدعوة إلى التعارف بين الأمم والشعوب، يقول الله تعالى: (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليم خبير)، فالتسامح في هذا المقام يأتي ببعد وجودي، فهو ضروريّ ضرورة الوجود الذي اقتضى في سنّته أن يكون الناس في هذه المعمورة مختلفي الأعراق والديانات والثقافات والبيئات، ولا يتحقّق التعارف الذي تنص عليه الآية الكريمة إلا عبر الحوار والتفاهم والالتقاء، وهي من شروط ومتطلّبات التسامح الأساسيّة. وكان من ميّزات التسامح أيضا؛ الإقرار بالتعدديّة والاعتراف بالآخر المخالف فردا وجماعة، فالتسامح الإسلامي إذن وفق هذا المنظور الأخلاقي العالمي؛ يعتبر ضرورة أساسيّة لضبط الاختلافات وإدارتها والتعايش بالطريقة الإيجابيّة الصحيحة في جو من الإخاء والسلام بين كافّة أجناس ومعتقدات وألوان البشر، فكل هؤلاء المختلفون ظاهريا ينحدرون من أصل واحد، وهي النفس الواحدة، فالقرآن الكريم يقول: (يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتّقوا اللّه الّذي تساءلون به والأرحام إنّ اللّه كان عليكم رقيبا).
فالإسلام، هذا الدين العالمي الذي يتّجه برسالته للبشريّة جمعاء، يقرّ حرّيّة التديّن بكلّ سمو وموضوعيّة، وذلك في مظهر متفرّد وعميق من مظاهر التسامح الديني، كما أنّه يعترف بالديانات السماويّة الأخرى (اليهوديّة والمسيحيّة) جاعلا الإيمان بالرسالات والأنبياء الذين بعثهم الله هداية للناس؛ ركنا من أركان الإيمان، وسامحا لمعتنقي هذه الديانات الإبراهيميّة؛ بحريّة الاستمرار في شعائرهم وعقائدهم، قال الله تعالى في سورة البقرة: (آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير). فالإسلام بهذا المنظور يعترف بالحقوق الشخصيّة لكل فرد من أفراد المجتمع ولا يجيز تحت أيّ ظرف من الظروف أيّة ممارسات تنتهك هذه الخصوصيّات والحقوق، فالاختلافات بين البشر عليها، وفق هذا المنظور، ألّا تؤسس للتباعد والقطيعة والجفاء، إنما تؤسس للتسامح مع الآخر المختلف.
إنّ المنظومة السلوكيّة والأخلاقيّة التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف، المبنيّة على الإيثار والإحسان والرفق والعفو والأمانة والقول الحسن والألفة؛ اقتضت بالنتيجة الالتزام بمبدأ التسامح، فالعلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة في أصلها علاقات قائمة على المودّة والمحبّة والأخوّة، مهما تباينت المواقف والأفكار، فهذا التباين والاختلاف يؤكّد على ضرورة الالتزام التامّ بهذه المبادئ والقيم.
وفي الختام، يمكن القول أننا اليوم في أشدّ الحاجة إلى تفعيل مبدأ التسامح وأخذه من طوره النظري البحت إلى طور التشغيل التطبيقي، فمجتمعات القرن الواحد والعشرين بحاجة إلى هذا التسامح العظيم الذي فيه وحده يتم القبول بالآخر المختلف والتعايش معه بإيجابيّة ومرونة حقيقيّة، فالتقارب بين الأمم والحضارات والثقافات أصبح واقعا كبيرا بفعل ثورة الاتصالات التي جعلت العالم (غرفة واحدة) يستوطنها الجميع، مزيلة كافّة الحواجز الزمكانيّة بين هؤلاء الجماهير الغفيرة المتباينة، الأمر الذي يدفع بهؤلاء السكّان في هذه الرقعة الصغيرة إلى إيجاد مساحات مشتركة مع غيرهم من المستوطنين؛ تحقيقا لمصالحهم الفرديّة والمشتركة والمضيّ بهم بسلام وأمان إلى الغد المشرق الذي يضمّ الجميع.
copy short url   نسخ
29/01/2022
2062