+ A
A -
داليا الحديدي
كاتبة مصرية
سرت يوماً مأخوذة بروعة سماء بيروت حتى تهت كليًا عن العوالم وسرحت في متاهات السحب الغارقة في إبداعات الخالق، ولشدة تركيزي بتلكم الزرقاء وقعت فريسة لظاهرة نفسية تُسمى «برايدوليا»، تلك التي تحث أصحابها على رؤية وتمييز أشكال واضحة في أشياء معدومة الشكل، لذلك فقد رأيت أشكال طيور تبتسم في السحب بلون أبيض، كما خيل لي وجوه بشرية تضحك.
عادة لا يلحظ المرء هذه الظاهرة إلا إذا كان وحيدا، ما يؤكد حقيقة مؤسفة وهي أننا لا نسعى لتخصيص وقت للمكوث مع أنفسنا، بدليل أنه ما أن نختلي بذواتنا إجباريًا إلا ونسرح في لا شيء وتسيطر علينا ظاهرة «الباريدوليا»، فنحن لا نسعى للعثور على دقائق نختلي فيها مع أنفسنا ولسنا معتادون على الجلوس مع الذات إلا إذا أُجبرنا، ما يعني عدم إحساسنا بحاجتنا للمكوث دون جمع كوننا نفتقد لثقافة حتمية تخصيص وقت للذات، عوضًا عن أن الكثيرين لا يأنسون بالجلوس مع أنفسهم أو تراهم لم يختبروا هذه العلاقة مع النفس من الأساس. ما أن نجلس دون إزعاج حتى نسرح في اللا شيء، فتلعب بنا الظواهر، عوضًا عن التأمل أو التفكر. ونادرًا ما نجد داعيا للبحث في الذات عن الذات، ما يعني قلة الوعي لدينا بأنفسنا وأحيانًا انعدام الوعي بأنفسنا. كثيرا ما نسمع أحدهم يقول: «لا تسألوني عن سبب إقدامي على فعل هذا الأمر، فأنا نفسي أجهل السبب»، والمثير أنه ورغم اعترافه بجهله، إلا أن ذلك لم يحثه على أن يمنح القليل من وقته بحثًا عن دوافعه لعمل هذا الشيء.
ومرحلة البحث عن الذات داخل النفس تختلف عن الوعي بالذات، فالأولى تشبه مرحلة الروضة بالنسبة للأطفال حين يشرعون في تعلم أبجدية اللغة لفهم المعاني، ثم تليها خطوات مطولة وممتدة للوصول لمرحلة الوعي بالذات والتي تقارب قدرة تدريب الطالب حتى يكون ضليعًا بعلوم العروض والصرف والنحو.
صحيح أن الإنسان عرف ككائن اجتماعي لديه شغف شديد بالتعرف على الآخرين من منطلق أن معرفة الناس فرص وكنوز، لكن الأصوب أن معرفة النفس أولى وأنفس من سائر الكنوز.
كثيرون قد يتخطون الأربعين ويفترض أن يكونوا أشخاصا عدولا يؤخذ بشهاداتهم في المحاكم على أنه تم برمجتهم في أطر «ويندوز التبعية» فاقتنعوا أن «ما تعرف أكثر منهم، ماذا يفضلون، وبابا أدرى بمصلحتهم».
فتقبلوا بانقيادية ضريرة خيارات الأهل لهم سواء في زيجة وظيفة أو حتى في انتقاء الملابس بدعوى أن الأهل أكثر خبرة، فينشأ مجتمع نسبة كبيرة منه مستندة على خياراتها من أسلافها، لذا يحدث انهيار لابنة حال وفاة والدها، فقد اتكأ الفرد ماديًا عاطفيًا وكليًا على الآخرين.
فقلة ممن عرفت يتداخلون في علاقات مع محيطهم على شكل حرف H، بحيث يكون كل طرف كائن كالوتد قائما بذاته له حياته وقناعاته وإمكاناته وشواغله وأهدافه على أنه يتواصل مع الأخرين عبر (-) معبر يصل بينه وبينهم، فإن حدث وانقطعت الصلة (-) بينه وبين الآخرين، سيظل واقفًا، قائمًا I ولن ينهار إن فقد عزيزا، لكن كثيرون -لتبيان الكثرة لا للتعميم- يسعون لعلاقة مع الآخرين على شكل «T»، يرتكزون كليًا على شريكهم في العلاقة ليحمل عنهم مسؤوليات حياتهم وخياراتهم بالمطلق، بحيث يستنشقونهم كأوكسيجين لحياتهم، لذلك فأغلبنا يبحث عن البيزنس في العلاقة عن السند سواء كانت العلاقة مع بشر أو مع شيء؛ الصديق السند، الوظيفة السند، المعارف السند، المأوي والمسكن السند، الزوج السند، الأب السند، الأسرة السند، الجيران السند، السيارة السند، الدراسة السند، المظهر السند، الابن السند. المنصب السند، المركز الاجتماعي السند، السمعة السند، الشهرة السنة، الرصيد المصرفي السند، المصاغ السند، العقار السند أو الدولار السند.. إلخ.
لقد ارتبطت عقول البعض بالعقلية الجمعية سيما لو حازت موثوقية، حتى أن وجدانهم تعلق بوجدان المجموع، فصار يستلذ بما هم يتذوقون ويقتبسون من مشاعرهم ليتمعيشون بماهم يشعرون. لقد صادقوهم بتبعية الثقة حتى تغربوا عن أنفسهم، فيعيش الواحد منهم في دائرة مغلقة مربوط بآخرين، حيث أجبر نفسه بمحض إرادته على التواجد وسط هذا الجمع والخضوع لقوانينهم والابتهاج لمباهجهم والتأمين على ناموسهم.
copy short url   نسخ
15/01/2022
1122