+ A
A -
خولة مرتضوي
إعلامية وباحثة أكاديمية
إنه بعد انقضاء كل حقبة زمنية تامة من عمر الزمن؛ يكون لزامًا على المجتمعات أن تعيد ترتيب وتعيين حقيقتها المطلقة وصفاتها الجوهرية لتؤكد على خصوصيتها وأصالتها الذاتية ولتفلتر انتماءاتها وتبرز خصائصها المميزة.
المجموعات البشرية أصبحت تؤطر انتماءاتها وفق ما يجمعها من مشتركات ومصالح وروابط إنسانية مختلفة مشكلةً إطارًا يحدد هويتها الخاصة. وفي المقابل، نجد أنه في بعض الأحيان يتسع مفهوم الهوية ليسع إطارًا أشمل من ذلك، فالهويات القومية والدينية والعرقية والطائفية وغيرها؛ هي نماذج مختلفة للهوية الضيقة، فالأنموذج الأوسع والأجمع لكل تلك الهويات المحددة هو أنموذج الهوية الوطنية الذي يمكنه أن يشمل أكثر من قومية وأكثر من دين وأكثر من لغة وعرق وطائفة، فهي إذن تعبر عن المشترك الإنساني الأوسع في الانتماء (الجغرافيا، التاريخ، المصالح المشتركة). وفي ذلك، يقول السياسي اللبناني سليم الحص: «أنا لبناني، عربي، مسلم، ولا أنسى إنني من البشر المؤمنين بأن الإنسان أخو الإنسان. أنا لبناني، فروابط المواطنة تجمعني وأبناء وطني، والمواطنة هي عيش مشترك، وأنا عربي أعتز بانتمائي إلى أمةٍ واحدة ومن يجمعني بهم لغة واحدة وثقافة مشتركة وتاريخ عريق ومصالح متشابكة وإدراك لوحدة المصير، وأنا مسلم والدين جسري إلى الإنسانية كوني من البشر، والدين الذي أعتنق هو دين الانفتاح والتسامح، فلا إكراه في الدين، وينهى عن القتل ويوصي بالجنوح إلى السلم، إن جنح الغير له، ويصنف المسيحي بأنه الأقرب مودةً للذين آمنوا، ويدعو إلى العفو، فهو خير للناس، ويجعل الصفح في منزلة الإحسان، ويحكم بأن لا تزر وازرة وزر أخرى، فلا يؤخذ البريء بجريرة المذنب».
إن موضوع الهوية الوطنية واحد من أبرز المواضيع المطروحة على ساحة النقاش العلمية والإعلامية محليًا وعالميًا، ويعتبر التعليم، كوسيلةٍ وغاية، من أكبر المداخل التي تقوم بتعزيز الهويات الوطنية، لاسيما إذا ما تم التركيز على إعداد وتطوير مناهج ومناشط معنية لتحقيق هذا الهدف. يعتبر التعليم اللبنة الأولى في بناء وتشكيل وصقل شخصية المواطن (مصنع الشخصية الوطنية)، ويعد واحدًا من أهم حقوق الإنسان، فالأوطان تبني على قاعدة المنظومة التعليمية الصلبة؛ رؤاها وهويتها وأهدافها الاستراتيجية والتنموية ومشاريعها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن خلال هذه المنظومة الرصينة تحقق الأوطان والأمم مستقبلها المنشود الذي تتجه إليه. للتعليم دور كبير في تنمية وتعزيز مكونات الهوية الوطنية وزرع القيم الخلقية والمعرفية وتعميق الشعور المواطنة والانتماء، فكل عنصرٍ من عناصر العملية التعليمية له دور فاعل في تشكيل شخصية وهوية المتعلم، لذا يجب على هذه العناصر أن تتكامل لا أن تتناقض وتتعارض فيما بينها، كما أنه على التشريعات التعليمية أن تتوافق مع الرؤية الشاملة للدولة، فالمدرسة والجامعة ومعاهد التعليم المختلفة هي المجال الأكبر لترسيخ قيم الهوية الوطنية والمواطنة الصالحة، وعليه فإن المناهج التعليمية عليها أن تؤكد على مقومات الاعتزاز والانتماء وتؤكد على اللغة الأم؛ كعمادٍ للهوية الوطنية، ومتى ما فقدت المناهج قدرتها على تحقيق كافة هذه الأهداف؛ أصبحت تقدم تعليمًا دون هوية.
قارئي العزيز، تعتبر اللغة أساسًا للفكر، فمن خلالها نعي ونبصر العالم، وهي أداة التفاعل والتواصل الأولى بين البشر وتتميز اللغة بأنًها ثنائية الاتجاه، ولا يمكن لباحثٍ يهدف إلى دراسة أي ظاهرةٍ عالمية في الكون من أن يهمل دراسة تأثير اللغة على هذا الظاهرة، فاليوم أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة الأولى عالميًا، ومع انتشار الإنترنت ودخول عصر الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي؛ أدت النتيجة إلى استخدام عبارات إنجليزية في الحياة اليومية، والتي جاءت كدليلٍ آخر على هيمنة الثقافة العالمية الجديدة. وفي تقريرٍ للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ISESCO عبرت فيه عن قلقها حيال ما تتعرض له اللغة العربية من إقصاء وتهميش، وقالت في تقريرها: «إن البلاد العربية تعاني من أزمة الهوية؛ نتيجةً للمتغيرات التي طرأت في التركيبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العربية».
إن مجتمعنا القطري يعاني اليوم أزمة حقيقية تتمثل في اختراق بنيته الثقافية، حيث يتجلى ذلك في تراجع الاهتمام باللغة العربية، لغة الهوية الأصيلة، فالمجتمع بمختلف تدرجات أفراده العمرية؛ يعاني نفورًا ملحوظًا من استخدام الفصحى، ويمكن أن نعيد هذه الإشكالية الكبرى لعددٍ من العوامل التي ساعدت في تفاقم الحالة يومًا بعد يوم. فعلى سبيل المثال، الأساليب الجافة المتبعة في تعليم اللغة العربية في مختلف المراحل التعليمية؛ أدت إلى خجل الناشئة من التعبير بالفصحى وتفضيل التعبير بالإنجليزية، الأمر الذي ربط استخدام الفصحى بالرجعية والمحدودية والتاريخية وربط اللغة الإنجليزية بالصفوة والتحضر الثقافي والاجتماعي. إنه مظاهر العولمة اللغوية التي يعاني منها مجتمعنا هي استخدام (العربيزية) في منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى اجتياح ظاهرة الثنائية اللغوية (اللغة العربية واللغة الإنجليزية) وأحيانًا الثلاثية اللغوية (اللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية) في مدارسنا وكلياتنا وجامعاتنا الحكومية وسيطرة اللغة الإنجليزية على غالبية مؤسسات التعليم الخاصة في البلاد، وهذه الازدواجية اللغوية امتدت من حقل التعليم لتسري في كافة أوجه ومجالات الحياة المهنية والاجتماعية، وكل هذه الأسباب وغيرها؛ أنشأت جيلًا لا يفهم ولا يتكلم ولا يحب ولا يفخر باللغة العربية.
وفي ذلك، تلام المؤسسات التعليمية، والمناهج الدراسية ومدرسي اللغة العربية، ممن لم يهتموا كثيرًا بربط الدروس التنظيرية بتطبيقات تعليمية يسرة وممتعة؛ تيسر هدف تعلم اللغة وتحبب الناشئة لتجرع المزيد منها، فمتى ما راعت القوانين والمناهج أهمية التأكيد على اللغة العربية؛ اقتربنا كثيرًا من تحقيق هدفي توطين اللغة الوطنية الرسمية The National Language والمحافظة على حراسة وتعزيز الهوية الوطنية.
copy short url   نسخ
25/12/2021
2777