+ A
A -
حمد حسن التميمي
بمجرد أن ننبثق إلى الوجود، فإننا نغدو ملزمين بعيش واقع يعيش وسطه ملايين البشر، لنتشارك مع إخوتنا في الإنسانية الحياة بحلوها ومرها، بجمالها وقبحها، بخيرها وشرها. ومن اللحظة الأولى التي نفتح فيها أعيننا نتطلع بشغف نحو السماء، ونرنو لإشراقة الشمس، ونتلمس الجمال والخير بتوق شديد، فنتصرف بعفوية وتلقائية الأطفال الذين لا يعرفون سوى الضحك المستمر، والسعادة المفرطة، والبراءة اللامتناهية، ويرون العالم بمنظور استثنائي وكأنه بستان لا متناه من الأحلام الوردية.
لكن بعد أن نكبر قليلاً نبدأ برؤية الدنيا على حقيقتها، فتتبخر أمام ناظرينا كثير من أحلامنا الجميلة، ونفقد وسط الطريق جزءاً كبيراً من عفويتنا وتلقائيتنا، لنكون أكثر واقعية بعد أن كنا صغاراً حالمين لا يرون سوى الجانب المشرق من الوجود.
وهنا يبدأ الصراع بين ما نريده ونحلم به وبين ما يتيحه الواقع الذي يفرض علينا في كثير من الأوقات ظروفاً ومواقف وأحداث تعاكس آمالنا وتمنياتنا. ففي الوقت الذي لا هم لذلك الطفل اللطيف المحب سوى كسب أصدقاء جدد في المدرسة، وقضاء وقت ممتع معهم، والإحساس بتقدير من حوله ومحبتهم له، يتعرض للتنمر حيناً ولكلمة جارحة حيناً آخر، يشهد الحب حاضراً حيناً، والغيرة وعدم حب البعض له حيناً آخر، ليدرك أن الحياة ليست كما كان يتصور. ثم يكبر وتزداد المواقف التي تفاجئه وتصدم توقعاته، فصديق يخون ثقته، وزميل عمل يدس له المكائد، وشريكة حياة لا تفهمه ولا تقدر تعبه أو العكس، ليشكل ذلك صدمة كبيرة له.
وما وقوف الشعراء منذ فجر التاريخ على أطلال المحبوب إلا تعبير عن خيبة الأمل والفراق الذي تفرضه الحياة علينا قسراً في كثير من المناسبات. وحتى تلك اللحظات الجميلة التي بعثت في دواخلنا سعادة وسروراً فائقاً، لا تلبث أن تتحول إلى ذكرى مؤلمة تطاردنا ما تبقى من حياتنا.
فكم من إنسان ظل غارقاً في ماضيه، فلا هو قادر على عيش الحاضر، ولا هو بقادر على العودة إلى ذاك الزمن الجميل. وكم من امرئ يبكي انقضاء تلك الأيام العظيمة من حياته دون رجعة، ويظل يئن ليل نهار ويرجو لو تعود، دون أن يسمع نداءه أحد.
هكذا يقضي كثير من الناس حياتهم، يبكون على ماضيهم، ويقفون على أطلال الذكريات. لكن لا يجب أن تكون الحياة كذلك على الإطلاق، فهناك فئة من البشر أدركوا بعمق حقيقة أن الوجود بكل ما فيه زائل، وأن ذلك لا يمنع من الاستمتاع بكل لحظة نقضيها وسطه.
فلا تبكِ لأن علاقة حب أو صداقة انتهت من حياتك، أو لأن لحظات قضيتها في قمة السعادة ولت ولن تعود، بل ابتسم واضحك لأنك حظيت بفرصة عيش تلك اللحظات الجميلة التي لا تُنسى، واضحك لأن من رحل عنك لم يكن يستحق محبتك أو صداقتك منذ البداية، ولأنه برحيله عنك أسدى لك خدمة لا تعوّض؛ ألا وهي إنقاذك من جحيم علاقة لو استمرت لكانت وبالاً عليك وتعاسة لك.
افرح لأن الأشياء بميعاد انتهاء، ولا تبكِ لأن الحياة تمضي، فجمال الوجود في زواله. لو كان الوجود على هذا الحال بلا تاريخ انتهاء، لكنا أتعس المخلوقات على وجه المعمورة. لا سعادة تدوم لكن الجميل في الأمر أنه في المقابل أيضاً لا تعاسة تبقى وتستمر، بل كل إلى زوال.
فلا تبكِ على ما فات طالما أن الحياة كلها ستمضي، ولا تتألم لغدر صديق أو خيانة حبيب لأنك ستصبح أقوى ولأنك الآن ستتمكن من إيجاد السعادة الحقيقية التي لست بحاجة إلى أحد حتى تحصل عليها. فلا تبكِ لأن الأمر انتهى، بل اضحك لأن الأمر قد حدث بالفعل، فكل شيء يصب في مصلحتك في نهاية المطاف.
copy short url   نسخ
24/11/2021
898