+ A
A -
يتألف حلف شمال الأطلسي –الناتو- من 28 دولة. يجمع بين هذه الدول عدوّ واحد، هو روسيا. غير ان هذه الدول مختلفة حول كيفية مواجهة هذا العدو. بموجب نظام الحلف، يتولى جنرال أميركي دائماً القيادة العسكرية العليا. وبحكم هذا النظام أيضاً فان القائد العام يتمتع بصلاحيات واسعة. فرنسا ضد هذه الصلاحيات ؛ غير ان اعضاء آخرين بمن فيهم ألمانيا ترى ان هذه الصلاحيات ضرورية من أجل سرعة اتخاذ القرار، خاصة في عصر العولمة الالكترونية. هناك قضية ثانية تثير الانقسام داخل الحلف، تتعلق بكيفية مواجهة العقيدة القتالية الجديدة للقوات الروسية التي أعلنها منذ مدة الرئيس فلاديمير بوتين.
تقول هذه العقيدة ان استخدام أسلحة نووية تكتيكية في بداية الصراع أمر ضروري للتصدي لأي عمل حربي يكون رداً على موقف أو اجراء يتخذه الكرملين.
لقد كان ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي اول امتحان لهذه العقيدة العسكرية الجديدة. فاتخذت القوات الروسية استعدادها للجوء إلى توجيه ضربات نووية تكتيكية اذا ما تصدى حلف الأطلسي بالقوة العسكرية لعملية ضم القرم (أو استرجاعه كما يقول الكرملين). وكانت نتيحة الامتحان ان دول الأطلسي امتنعت عن القيام بأي عمل، واكتفت بالادانة. والادانة الشفهية هي آخر ما يكترث له الرئيس بوتين. حتى انه وظف تلك الادانة من أجل تعزيز شعبيته في الاتحاد الروسي باعتباره القائد الذي أعاد للكرملين مكانته الدولية واحترامه في المجتمع الروسي!!.
من هنا قلق دول البلطيق التي تجد نفسها بين فكي كماشة الكرملين المتشدد من جهة وتعثر حلف الأطلسي المتراخي من جهة ثانية. واضافة إلى دول البلطيق الثلاث، فان بولندا هي أكثر دول شرق أوروبا تشدداً في عدائها للاتحاد الروسي. فهي تطالب حلف الأطلسي بإقامة منشآت عسكرية نووية في اراضيها تشكل قوة ردع عملية.
ولقد استجابت الولايات المتحدة لطلب بولندي سابق وأقامت قواعد للصواريخ الاستراتيجية في اراضيها. يسخر الكرملين من «التطمينات» الاميركية التي تقول ان هذه الصواريخ قريبة جداً من روسيا ولذلك فانها لا تشكل تهديداً لها ولا هي موجهة اليها في الاساس.. ولكنها موجهة ضد من؟. اذا كانت إيران هي المستهدفة كما كان يتردد سابقاً، فان إيران اصبحت صديقاً بعد الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة. واذا كانت كوريا الشمالية هي المستهدفة.. فان ثمة قواعد أميركية مناسبة في كل من كوريا الجنوبية واليابان. يعكس ذلك حالة التوتر الحاد بين روسيا والحلف. وقد تعمقت هذه الحالة في ضوء أزمة أوكرانيا.. ومن ثم تفرد روسيا في استخدام آلتها العسكرية في سوريا، الأمر الذي وضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام الامر الواقع.
وهناك قضية ثالثة تظهر دول الحلف من خلالها وكأنها «جميعاً وقلوبها شتى». فالدول الأعضاء ملزمة بتخصيص 2 بالمائة من دخلها القومي للدفاع. ولكن توالي الأزمات الاقتصادية والمالية يحول دون ذلك. ومن هنا انطلقت حملة الادانة الاميركية لهذه الدول. وهي حملة تقوم على أساس اتهام بعض الدول الأوروبية بانها تقصّر في اداء التزاماتها معتمدة على الولايات المتحدة. وقد ذهب المرشح الجمهوري للرئاسة الاميركية دونالد ترامب إلى حد القول: انه لن يأسف اذا انفرط عقد الحلف. لأنه آن الأوان للدول الأوروبية ان تتولى شؤونها الدفاعية وتكاليفها بنفسها.
ولكن الكلام السياسي شيء، والكلام العسكري شيء آخر. فايطاليا التي تعاني عجزاً مالياً تضخمياً، تؤثر معالجة شؤونها الاقتصادية على تحمل المزيد من الاعباء العسكرية. أما فرنسا فانها لا تشكو فقط من تفرد الولايات المتحدة بالقيادة العليا في حلف الأطلسي، ولكنها تنوء تحت اعباء التزاماتها العسكرية في افريقيا (جمهورية افريقيا الوسطى وشمال افريقيا، ومالي وسوريا، وحتى داخل فرنسا ذاتها لمواجهة خطر الإرهاب الذي يستهدفها).
مع ذلك تجمع دول الحلف على ان روسيا – بوتين تشكل خطراً حقيقياً، وانه لا بد من قوة ردع لحجب هذا الخطر. ولذلك قررت استحداث اربع فرق عسكرية جديدة تنتشر في دول اوروبا الشرقية.
غير ان هذا القرار يواجه صعوبات تنفيذية. فألمانيا اشترطت مقابل تجنيد العدد الكافي من الجنود (5 آلاف جندي) التفاوض مع روسيا أولاً. وهو شرط ترفضه بولندا وتعتبر انه عمل استرضائي لن يغير من جوهر المواقف الروسية.
اما فرنسا فقد أبدت استعداداً للمشاركة بثلث العدد المطلوب، لانها بحاجة إلى قواتها المسلحة في الداخل وفي افريقيا.
تبقى المشلكة الأشد تعقيداً التي يواجهها الحلف في استراتيجيته الجديدة والتي تزيد من تبعثره ومن تعثره في كيفية مواجهتها. وتنطلق هذه المشكلة من ان تطوير وتعزيز التمركز العسكري الجديد في دول أوروبا الشرقية لا يتماشى مع البنية التحتية من طرق وجسور في هذه الدول. ثم ان تأهيل منشآت هذه الدول بما يستجيب لضرورات توسع الحلف وتطوير مواقع تمركزه وتسهيل تحركاته تحتاج إلى موازنات كبيرة. ولا يبدو ان دول الحلف راغبة، ولا هي قادرة على توفير هذه الموازنات في الوقت الحاضر على الاقل!!.
وأثناء انعقاد القمة الأخيرة لدول الحلف في العاصمة البولونية وارسو في الأسبوع الماضي، أقرّ مشروع انشاء أربع فرق عسكرية جديدية لمواجهة خطر احتمال التوسع الروسي في البلطيق كما حدث في شبه جزيرة القرم. ولكن كم كان يبدو الرئيس الأميركي باراك أوباما ساذجاً أو مستخفاً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ذلك انه في الوقت الذي كان أوباما يصعّد موقفه في حلف الأطلسي بإقرار انشاء الفرق العسكرية الجديدة لنشرها في أربع من دول أوروبا الشرقية التي كانت تابعة للكرملين (حلف وارسو السابق)، كان يطلب من بوتين التعاون العسكري في سوريا ضد الرئيس بشار الاسد، حليف روسيا الوحيد في الشرق الأوسط! أم ان ذلك كان مؤشراً – أو ربما - دعوة غير مباشرة إلى المقايضة؟

بقلم : محمد السماك
copy short url   نسخ
14/07/2016
2732