+ A
A -
يأتي على الإنسان حين من الدَهر لا يألَف فيه وجه الحياة الطبيعي المليء بالضجيج والتكدس المادي والمعنوي، وجه الحياة الذي يفرض عليه مخالطة الناس في الواقع وفي عالم الافتراض، ووضع قائمة الأهداف والمرامي اليومية والأسبوعية والشهرية وملاحقتها؛ مسددًا ومقاربًا لكثير من الرغبات والاحتمالات المأمولة، يأتي عليه حين من الدهر لا يطيق فيه شيء؛ فيتعزل، طوعًا، حلبَة الحياة القاسية وتحدياتها المتواترة، عزلة يحاول فيها التقاط أنفاسه من جديد، التعرف على ما تبقَى منه: عمره، أحلام قلبه، مخزون الأمل لديه، وحصاد حياته الحقيقي.
ولعمري إنَ الحياةَ مصنَع شاق متلف إلا إذا صاحبها اعتزال صحي معتدل بين حين وآخر، ليس فقط للمحافظة على استمراريَة القابليَة الطبيعيَة على خوض تحدياتها ومحَنها المختلفة، بل كذلك لشحذ الأداء العقلي والوجداني ووقاية النفس من نوبات الهلَع واضطرابات القلق والاكتئاب التي أصبحَت سَمَت هذا العصر. ولعلَ الجائحة الراهنة التي أدوَت العالم بمستجداتها وتَبعاتها القاسية تعَد في ذاتها سببًا آخرًا يضاف إلى مسببات عالم الضجيج الحالي. ورغم أنَ كثيرًا ممَن يعتزلون الحياة الطبيعية يصعب عليهم العودة إليها، ويتطرَفون في عزلتهم بشكل مبالغ خوفًا على أنفسهم من الاحتراق مجدَدًا، إلا أنَ الاعتزال المشروط بوقت والمؤطَر بهدف وغاية، أجده، من أكثر الفرَص الاستشفائيَة التي تمنَح صاحبها هدنةً ونزهة للروح.
فالتوقف عن التواصل الاجتماعي البسيط منه والمعقَد والاكتفاء بالتواصل مع الذات Monologue والتعرف على خباياها وطبقاتها المخفية؛ يمكنه بشكل كبير أن يسهم في فهم أكبر للذات وللحياة معًا. للأسف الشديد، كلما توغلنا في العمر اكتشفنا أنَه لا وقت في الوقت، تحديدًا في كل ما يتعلَق بمسألة الهدنة أو العزلة الاستشفائية، فمصنع الحياة متطلب باستمرار، وأن يخلق الفرد وقتًا لنفسه يعني، بالنتيجة، أن يعطل كثيرًا من الالتزامات والمتطلبات المتوالدة، وستلغى، بالتالي، فكرة الهدنة أو قد تؤجل إلى حين غير مسمَى، وقد يمني الفرد نفسه براحة في أيَام العطَل أو الإجازات الرسمية لكنه قد يعود منها أكثر إرهاقًا من ذي قبل أو في أقل تقدير يعود وفي قلبه نيَه هدنه وراحة مؤجلة لم يجرؤ عليها بعد.
هذه الحالة يعرفها تمامًا أولئك الموغلون في جانب واحد فقط من جوانب الحياة، ممَن لا اتزان في كفَات موازين حياتهم، فهم في إفراط وتفريط مستمر، فلا وسط أبدًا، أي لا راحة ولا انبساط، إنما تطرف وشقاء، ويبقى سؤال الجدوى يلاحقهم دومًا دون أن يجدوا له متسعًا من الوقت للنظر فيه والتأمل!، فما جدوى السعي الحثيث الحارق في حَلبات العمل، وما جدوى السعي الهالك في مضامير الدراسة، وما جدوى التوغل الآهل في العلاقات الاجتماعية. لا عجَب أنَك ستفقد بصيرتك وأنت في هذه الحالة الشديدة من التطرف والتشظي، ولن تعرف قيمة الجهد الكبير الذي تقدمه في الحياة والمخرَج الحقيقي الذي تنشده من كل هذا؟ هل تلاحق أحلامك أم أنَك تنفذ أحلام الآخرين، هل تحولت إلى أداة في يد من حولك أم مازلت تملك زمام أمرك؟ هل تدثر نفسَك في كل حين أم إنَك تدثَر الجميع ولا تلتفت إطلاقًا لوجعك؟ إلى أين تمضي حقيقةً؟ أين أنتَ يا من الله؟!
غار العزلة الهدنة هذا والانكفاء والتحوصل حول الذات يسهم في التصالح معها!، فالذات التي قد تخون صاحبها أو قد تخذله في محطات كثيرة، فتشد، بما تملك، عضد من حولها وتهمل أن تشد وترًا في نفسها. إعادة ترتيب الأجندة الداخلية وتفنيد الأولويات والرغبات والتعرف المتبصر على دوافعنا الخفيَة التي تقودنا وتلح علينا وتَلَمس مصادر النور والحب والراحة والرفقة والمواساة في حياتنا، كل ذلك وأكثر يمكنه أن يتم أثناء نزهتنا في أرواحنا وذواتنا أثناء العزلة.
للعزلة الإيجابية أثرها العظيم على تزكية الروح، إعادة تموضعها بالنظر إلى هدف عمارة الكون الذي سنَه الله، عزَ وجَل، لعباده جميعًا، بل إن من أبرز ثمارها هو التقرب من فاطر السماوات والأرض والتعرف على عظيم رحمته في حياة الفرد. في حَق هذه العزلة أفادَ كثير من علمائنا الأكارم، لاسيَما في أثرها على تزكية الروح، فقد قال الإمام الغزالي، رحمه الله تعالى، في كتابه (إحياء علوم الدين): «وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينَزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة». وقال الدكتور مصطفى السباعي، رحمه الله تعالى، في كتابه (مذكرات في فقه السيرة): «يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفَينة والفَينة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جَلَ شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله. ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصَرَت في خير، أو زلَت في اتجاه، أو جانبَت سبيل الحكمة، أو أخطأت في منهج أو طريق، أو انغمست مع الناس في الجدال والنقاش، حتى أنسَته تذكرَ الله والأنس به، وتذكر الآخرة وجنَتها ونارها والموت وغصصه وآلامه، ولذلك كان التهَجد وقيام الليل فرضًا في حق النبي، صلى الله عليه وسلم، مستحبًا في حق غيره. وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته. وللخلوة والقيام لله بالعبودية في أعقاب الليل لذَة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها. وقد كان إبراهيم بن أدهم، رحمه الله تعالى، يقول في أعقاب تهجده وعبادته: نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها».
ختامًا، اعلم يا صديقي أنَكَ لا تستطيع التعرف على الأشياء النفيسة في الزحام الشديد، في هذه الحياة أنتَ في موكب مزدحم يضمنا جميعًا، فكيف لك أن تنظرَ متمعنًا في عمق نفسك وأنت تحاول أن تنجو بها من تدافع الحشود والخطوب السريعة. حاول يا صديقي أن تعتزل لأيام معدودات كلَ حين من الدهر، واعلم تمامًا أنَ العزلة النافعة ليسَت ضربًا من ضروب الهروب من الحياة والمسؤوليات والأشخاص، بل على العكس تمامًا، هي نوع من التقدم الحثيث نحو الروح، تقدم سبيله التزكية والمواجهة والتقييم والتعرف على الذات من جديد والعودة، بعد ذلك، للحياة وتجلياتها المختلفة بانضباط وبصيرة ومسؤولية أكبر[email protected]
بقلم: خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
11/09/2021
1132