+ A
A -
إن المكون الاستراتيجي الثقافي يأتي كواحد من أهم المكونات التي تهتم بها الدول لتحقيق أمنها القومي الشامل، وذلك لما للتحولات الثقافية من دور حيوي كبير في بناء التشكيلات والهيكيليات والاستراتيجيات الأمنية، فهي درع من دروع الأوطان، فلا مستقبل ولا حضارة ولا أمان لشعوب بلا ثقافة، إذن فالأمن الثقافي السياسي لأي بلد؛ هو من أبرز وجوه أمنها القومي وأهم طبقاته غير المرئية الداخلية التي يتشكل منها، فهو بمثابة البيئة الخصبة التي تستطيع من خلالها الأمم اجتياز مسيرتها التكاملية التنموية بالتزامن مع بنائها وحفظها لهويتها الثقافية، فالثقافة دورها أن تبني الشعب والأمة وبالتالي تبني الدولة، وهي كذلك تقوم بدور طوق النجاة من أي تهديدات أيديولوجية أو معنوية تواجهها، وفي ذلك يقول الباحث الاستراتيجي محمد تولايي: «إن منشأ ومولد الحضارة والثقافة هو المجتمع النامي والآمن، ومن جهة أخرى فإن تطور وترقي الحضارة والثقافة كفيل بالحفاظ على الأمن وثباته، وإشاعته تساهم في إزالة التوتر والتشنج على الصعيدين المحلي والدولي، حيث يتضح جليا اليوم لجميع الباحثين دور الثقافة وحضور القيم الثقافية في صلب التحولات التي تطال المجتمع. ومن هنا يلاحظ، مع تبدل النظرة إلى مفهوم الأمن، طرح آراء ثقافية جديدة تتحدث عن أولوية وتأثير الثقافة في الأمن القومي للدول، بمعنى أن الأمن القومي لبلد ما لا يتلخص في زيادة عديد القوات النظامية، ولا في زيادة التسلح النوعي، ولا في خوض الحروب العنيفة فحسب، بل يبدو أن أهم ركن من أركان الأمن القومي هو وجود أشخاص مثقفين».

قارئي العزيز، تشهد قطر الغراء هذه الأيام تحولا كبيرا نحو مزيد من التمكين الاستراتيجي الشامل ، فهذا التمكين الشامل الذي نتجه إليه هذه الأيام؛ يجعلنا نحقق أمننا القومي المستقل بعيدا عن الحلفاء المتغيرين والتكتلات والمنظمات الدولية المضطربة، فلقد أدركنا بفضل الله تعالى ثم بفضل هذه الأزمة؛ حجم التهديدات التي تواجهنا والتحديات التي علينا التغلب عليها سواء في الداخل أو الخارج، والتي أدت بنا إلى الشروع في رسم الاستراتيجيات الجديدة وبناء الآمال العظمى لتنمية قوى الدولة بشكل شامل والانطلاقة التامة منها بكل إيمان ووطنية وولاء، وحاليا يشرع المخططين في تنفيذ الاستراتيجيات والتكتيكات المتنوعة؛ سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، بيئيا، والهادفة لتأمين الدولة من الداخل والخارج بما يدفع التهديدات المختلفة بالشكل الذي يكفل لشعب هذه الأرض حياة آمنة مستقرة بأقصى طاقات التقدم والنهوض.

ومن هذا المنطلق وتماشيا مع الخطة الوطنية الطموحة للاكتفاء الذاتي علينا أن نهتم بتنمية قطاع الثقافة والفكر في قطر جنبا إلى جنب كافة القطاعات الأخرى، وذلك بالشكل الذي يجعلنا منتجين فعالين في هذا المضمار لا مستهلكين متقاعسين متخاذلين بسبب الثقافة الرأسمالية التي غزت الشارع العربي بشكل عام والتهمت بصيص الإنتاج لديه، وهيمنت على مختلف أمور معاشه ابتداء من طعامه وشرابه مرمرا بدوائه واستطبابه ووصولا إلى فكره وثقافته، فالمطلوب حاليا هو التحول من مرحلة الاستهلاك والاعتماد على الآخر؛ أيا كان هذا الآخر صديقا أو مشروعا لعدو لدود، إلى مرحلة الإنتاج في مختلف المجالات، وبرأيي على الإنتاج الثقافي أن يأتي في مقدمة المساعي الانتاجية الوطنية الجديدة، حيث لا يوجد أي إشكال حقيقي في البدء في ذلك، فمساحات الحرية كفلتها الدولة للمثقف القطري الذي يستطيع بعقله الوطني النير أن يعبر خلالها عن آرائه الساعية لمزيد من التنمية والبناء، وعلى العكس تماما تجد أن المثقف في دول الحصار يعاني من أنظمة تختزل مساحات حريته وبالتالي تبني هذه الدول لنفسها مثقفا مزيفا مدعوما بالقوة والإكراه، كما أن على الجهات الحكومية وعلى رأسها وزارة الثقافة والرياضة ووزارة التعليم والتعليم العالي تكريس جهودها في إعادة إحياء تعلق الفرد بالفكر والكتاب لتبعده قدر الإمكان عن أسر المعتقدات السائدة والثقافات والأيدولوجيات الدخيلة وذلك من خلال تفعيل دورها في إقامة الأنشطة والفعاليات الثقافية المتنوعة ذات الطبيعة الجاذبة للجمهور وأقصد بالجمهور هنا الشعب؛ صغيرا وكبيرا مع الاهتمام بتوجيه مؤسسة الأسرة والمدرسة التي لها دور جوهري في عملية حب الثقافة والتعلق بها ومواجهة سموم وسائل الإعلام الكلاسيكية والجديدة، والتصدي للثقافات العالمية الدخيلة، كما أن المناهج التعليمية التي يدرسها أبناءنا في المدارس والجامعات الوطنية بالبلاد عليها أن تراعي إدراج أمرين مهمين وهما: ثقافة التحول إلى الإنتاج الشامل، وثقافة المواطنة الفاعلة، كما أن قطاع الإنتاج البرامجي والإعلامي عليه أن يعكس مضامين جماهيرية تتماشى مع ما تنتهجه الدولة بعد يونيو 2017، وبشكل عام على الجهات المختلفة أن تتآزر في تمتين الملف الفكري والثقافي الوطني، وهو دور لا تقوم به فحسب الحكومة متمثلة في الوزارات أو الجامعات أو الاستراتيجيون والمخططون، بل عليه أن يلعبه الجميع في هذه المرحلة بامتياز؛ المثقف ورجل الشارع، والموظف ورب الأسرة، والطالب والتلميذ.

إن الثقافة هي عنوان الوجود المجتمعي وهي ثمرة التفاعل الروحي والمادي لأبناء المجتمع، واليوم نحن نتنعم في قطر بفوران وطني رائع يمكنه بكل سهولة ويسر أن يؤدي بنا إلى تحقيق أحلامنا وآمالنا العظيمة، فهذه الحقبة من تاريخ الوطن تعتبر من أكثر الحقب أهمية والعمل المطلوب فيها كثير، والأمر بحاجة ماسة إلى الممارسة الجادة في إطار الرؤية الوطنية المرسومة مستجيبين لمعطيات هذه المرحلة الفارقة ومشكلين لأرضية خصبة ننطلق منها على طريق الحضارة البشرية المعاصرة، مشاركين في صناعة قطر الغد، بروح إيمانية عالية تسمو عن التبعية والجاهلية والاستعمار وتحلق في سماء الأمة الإسلامية والعالم العريض بكل إنتاج وخير وسلام.


خولة مرتضوي
إعلامية وباحثة أكاديمية- جامعة قطر
[email protected]
copy short url   نسخ
22/08/2021
1344