+ A
A -
دخل حاضر العالم الإسلامي العام الهجري الجديد 1443 في مشهد باهت كالمعتاد، أصبحت الذكرى تتوارى عن الوجدان وتتراجع في الاستشعار وتضعف في الإحياء، في ذات الوقت الذي نعيش فيه كل عام، حالة تسليع ضخمة لا علاقة لها بالمعنى الروحي ولا التقديري للسيد المسيح في مطلع كل عام ميلادي، وهي قضية بذاتها نحتاج أن نتوقف عندها.
فكل عام يزداد ذلك التسليع للمناسبة وتُطوّر طقوسه، ونحن هنا مطلقاً لا نعني حق الإخوة من مسيحيي الشرق ومن مسيحيي العالم في إحياء المناسبة، ولكن نتحدث في نهب جزء من ثروة العالم لصالح تلك الهياكل الرأسمالية في الغرب، ومن يتبعها بجنون من دول الشرق وخاصة العربية والخليجية، فلا تحول هذه الأموال للإنفاق العام ولا للاحتفاء الاجتماعي في المناطق المشتركة، ولكن كل ما في الأمر هو ماكينة ضخ وتسابق مجنون لاستقطاب سياحة غير نظيفة، وتفجير غرائزي مجنون وهلوسات احتفالية لا تنعكس على سعادة الفرد والروح.
وأنا هنا لا أتحدث عن مجتمعات مسيحية، بل مسلمة في الأصل، ما يحضر لديها أو يُحضّر هو ذلك الكرنفال المشحون من الأزياء والإضاءات والحفلات الصاخبة، التي هي أبعد ما تكون عن أسفار المسيح، بمعنى هي عملية تزوير وتوظيف لذكرى دينية تُنفذها السوق الرأسمالية.
وفي مسار آخر عملية نفاق سياسي، تسعى لها بعض الهيئات الرسمية للتملق المنافق للكنيسة التابعة للقوة الكولونيالية، وليس مراعاةً للإخوة المسيحيين المقيمين على أرضنا العربية، فضلاً عن مواطنينا الأصليين من مسيحيي الشرق وحقهم المطلق بالاحتفال بالمناسبة الدينية، وطقوسها في وطنهم.
أما الصورة الأخرى المؤسفة، بل المروّعة، فهي تلك الماكينة المحتشدة كل عام من تيارات مذهبية تخضع في الغالب لتعليمات حكوماتها وتطورات تغيراتها الدينية، التي تمارس ذلك النفاق الذي ذكرناه، أو تعالج تطرفها القديم ضد المسيحيين المدنيين، في لعبة سياسية قديمة، فإذا بتلك المواقع والمنابر تبعث عاصفة كراهية مقيتة، لا تواجه ذلك التسليع المنافق من حكوماتها، وإنما تشن حربها الكلامية وتجدد نشر فتاواها ضد التقدير للمواطن العربي المسيحي، والمقيم البسيط.
ورغم إضعاف تلك التيارات من قبل النظام السياسي هنا أو هناك، بناء على تغيير قواعد لعبتهم مع الغرب، إلا أن تلك الألسن تُفرّغ غضبها من فقدان بعض الامتيازات أو منابر التشدد، بصب جام غضبها على المهنئين بذكرى العام الميلادي لإخوانهم من مسيحيي العرب، أو رفاقهم من مسيحيي العالم كمشاعر إنسانية وتقدير أخلاقي إسلامي لمعنى التعايش والإحسان، وهو أمرٌ قد صدرت فيه فتاوى قديمة ترى استحسانه.
وهنا لا نمنع أبداً حق التيارات المحافظة لسلوكها الشخصي، وقد يكون من بينهم من يعدل ويحسن في معاملته مع المسيحي وهو لا يرى جواز التهنئة لأسباب عقائدية، سأتحدث عنها لاحقاً، فلا أنكر على تلك المجموعات الفاضلة التزامها بفقهها، لكن المصيبة تلك الأصوات المنكرة، التي تحوّل مناسبة المسيحيين إلى حفلة كراهية، يكاد أن يُفتن بها المسلم الذي يبحث عن التعايش الأخلاقي، فضلاً عن اخوتنا المسيحيين العرب وغيرهم، فيقدمون فكرة سيئة للغاية عن موقف المسلم الأخلاقي ورسالته.
ويتعقبون كل من يُهنئ بحرب كلامية وطعن ديني يصل إلى التكفير، فأي رسالة نبعثها للعالم وقبله الجوار الأخوي العربي في ظل هذه المنابر السيئة التي هُزمت أخلاقياً؟
واستُخدمت من أنظمة رسمية ضد مصالح شعوبها، ثم انطلقت لتحفر خنادق من نار بين الشعوب، وهي تخدم بذلك الاسلامفوبيا وقوى الشر الغربية في المركز الكولونيالي، وتساهم في تشويه صورة المسلم، بل والرسالة الإسلامية السمحاء في حقيقتها، وليس كما يستخدمها المستبدون العرب.
إن المعنى الذي يستحضره المسلم في ذكرى ميلاد المسيح المعجز، هو التخلق البيولوجي الطبيعي في رحم السيدة العذراء عليها السلام، ولكنه ليس في مقام المناكفة والجدال، وإنما في مقام الوحدة والتذكير بالجامع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين السيد المسيح عليه السلام كأنبياء، ولا حاجة بل لا معنى لذكر الخلاف والصديق المسيحي يعرف ذلك جيداً ويُقدر موقف صديقه المسلم.
ونردُ بذلك على حملات التضليل والكراهية التي تخدع الناس، وتثير في أنفسهم خشية مضطربة بزعم أن التهنئة تعني تبدلاً عقدياً، لكن ذلك ليس السر الوحيد في علاقة السيد المسيح بالرسالة وبالهجرة، نتركها لمقال قادم بعون الله عن دروس الهجرة المهجورة.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
16/08/2021
1546