+ A
A -
حمد حسن التميمي
في بداية الوجود البشري على الأرض، كان التحدي الأكبر هو البقاء والاستمرار وسط عالم لا نعرف عنه شيئاً بعد، فبدأنا في التعلم شيئاً فشيئاً، ومحاولة الصمود اعتماداً على ما هو متواجد في الطبيعة من حولنا، ومع تقادم السنين أخذنا في تطوير أدوات بسيطة تساعدنا على الصيد وبناء منازل متواضعة تؤوينا.
واليوم، بعد قرون طويلة من الكفاح البشري والتضحيات الكبيرة، حققنا ما لم نكن نحلم به من قبل، وتمكنا من بناء حضارات متطورة، وابتكار تقنيات حديثة، جعلت الحياة أكثر سهولة من أي وقت مضى.
لكن هذا التقدم الذي وصلنا إليه، لم يكن بالمجان، بل كان له ثمن ما نزال ندفعه حتى اللحظة، ففي الماضي حيث كنا نعتمد كليّاً على ما نصطاده ونقطفه من ثنايا الطبيعة، كانت الحياة بدائية وبسيطة للغاية، أما الآن فأصبحت المادية مستشرية في كل تفاصيل حياتنا، لتجلب معها مشكلات نفسية وتحديات أخلاقية لم نعهدها من قبل.
وسط هذا الواقع الجديد، الذي نشهد فيه كل يوم مزيداً من التداعيات الاقتصادية، وندرة الوظائف، إلى جانب التزايد السكاني الكبير، وارتفاع درجات الحرارة بسبب إساءتنا المستمرة للبيئة واستنفاذنا لمواردها واستمرارنا في تلويثها، فضلاً عن تدني مستوى الثقافة، والركض خلف لقمة العيش، ونشدان الثراء على حساب كل شيء آخر.. أخذت القيم الأخلاقية بالانحلال شيئاً فشيئاً.
في الوقت الحاضر، لم يعد من السهولة بمكان أن نحافظ على أخلاقنا حيث استبد الفساد، وانتشر الغش، واضمحلت المعاني السامية في مقابل المادة، وهنا يكمن التحدي الجديد، الذي يتطلب منا المحافظة على قيمنا في قلب مجتمعات باتت أبعد ما تكون عن القيم النبيلة، مثل الحب والصداقة والصدق والنزاهة.
قبل عقود قليلة فحسب، كان الناس أكثر شفافية وإنسانية وأخلاقاً من يومنا هذا، حيث صار الكثيرون يعتبرون الصدق ضعفاً، والأمانة غباء، والتحلي بالأخلاق سذاجة، مستشهدين بالمثل القائل: «إن لم تكن ذئباً، أكلتك الذئاب».
وهنا تكمن الصعوبة، فكيف لك أن تصدق القول وتتمسك بالمعايير الأخلاقية والتيار العام يسير عكس ذلك إلا من رحم ربي، وكيف لك أن تحافظ على نفسك من الغرق والانجراف خلف الآخرين، وكل من حولك تقريباً يرى أن الحياة اليوم تحتاج مرونة تقتضي تقديم التنازلات وبيع روحك أحياناً، حتى تتمكن من الاستمرار في العيش وسط هذا الواقع الجديد، الذي لا مكان فيه سوى للأقوياء.
بعد أن كانت قيمة الإنسان تقاس بأخلاقه، صارت اليوم تقاس بمقدار المال الذي يملكه. وبعد أن كانت تقاس بعلمه وذكائه، أصبحت الآن تقاس بمكره وحجم أملاكه، حتى لو كان أكثر الناس جهلاً وانحطاطاً من الناحية الأخلاقية والفكرية.
لكن رغم ذلك كله، وفي جوف هذا التيار السائد، يبرز أبطال كل حين يثبتون أن الأخلاق تسمو فوق كل شيء، وأن قيمة الإنسان بعلمه وصفاء روحه. فلا يرضون بالتنازل عن مبادئهم ومعاييرهم الإنسانية تحت أي ظرف أو لأي أحد.
مهما تغيرت حال الدنيا، ومهما ظهرت تحديات جديدة في حياة الإنسان، يبقى التحدي الأكبر هو كيف يحافظ على أخلاقه رغم كل الظروف والأحوال، وهذا هو التحدي الذي نثبت من خلاله أننا بشر، لا مجرد آلات لا إحساس فيها.
يعتقد الكثيرون أن التطور التكنولوجي هو كل شيء، وهو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، لكن هذا غير صحيح، فلولا القيم الإنسانية لما كان لأي شيء قيمة ومغزى، ولما استطعنا البقاء حتى اللحظة.
صحيح أن المادية تفشت بشكل لا يصدق، لكن هذا لا يمنع أن في الوجود أناساً ما يزالون يضيئون الطريق لمن ضلوا السبيل، وبنورهم يهتدي الآخرون. فكن واحداً من أولئك الذين نحن بأمسّ الحاجة إليهم حتى تستقيم الحياة. واعلم أن التحدي الحقيقي هو كيف تحافظ على إنسانيتك وأخلاقك النبيلة وسط عالم مادي يحاول جاهداً النيل منها.
copy short url   نسخ
07/07/2021
1369