+ A
A -
عبد الله رضوان
عبد الله رضوان
كاتب تركي
لم يدرس نجم الدين أربكان الشريعة إنَّما اختار أن يكون مهندسًا، وفي الغرب حيث ألمانيا كان يقدم أطروحة الدكتوراه عام 1953م، كان يرنو بعينيه إلى تركيا التي هي أحوج ما تكون إلى من يأخذ بيدها إلى مكانتها، حيث عمقها التاريخي والجغرافي، وينتشلها من تخلفها عن ركب الصناعة والديمقراطية.
رفض كل إغراءات العيش في أوروبا، فالرسالة التي يحملها بين جوانحه أكبر من كل متاع الدنيا، فأيُّ إيمان، وأي مضاء، وأي عزم جبلت عليه نفسه؟! عاد إلى تركيا مدرسًا في كلية الهندسة، ومن رحاب الجامعة بدأت إرهاصات دعوته إلى التحول الصناعي في تركيا، حيث أخذت دعواته للقيام بثورة صناعية تنتشر بين أوساط الصناعيين والشباب، وذلك لنشل تركيا من حالة التخلف الصناعي الذي كانت تقاسيه، وهذا ما سعى إليه عندما أصبح في سدة الحكم.
بدأ حياته السياسية كنائب مستقل عن قونية في البرلمان التركي، كان يجول في المدن والقرى ليعرف الناس على مشروعه الإسلامي السياسي، وقد حفظ له التاريخ أنه كان يجلس مع الرجل والرجلين ليشرح برنامجه الذي يكون الإسلام فيه العمود الفقري، ورغم الخطر الذي كان يشكله هذا المشروع في ذلك الوقت فقد مضى أربكان فيه شوطًا بعيدًا، وهو خير من يعلم كيف كان مصير الرئيس عدنان مندريس الذي أعدم شنقًا لأنه حاول أن يعيد روح الإسلام إلى تركيا؟
نعم لقد مضى في طريقه ولم تنته حياته السياسية إلا وقد أسس عدة أحزاب، حاول أن يجمع فيها بين الإسلام والوطن، وهذه الأحزاب هي (حزب النظام الإسلامي، حزب السلامة الوطني، حزب الرفاه -الذي فاز بأهم ولايتين في انتخابات البلدية وهما «إسطنبول وأنقرة»- ثمَّ حزب الفضيلة)، نعم هذه هي الأحزاب التي أسسها وعايشها هذا العملاق، فما أن تغلق له القوى العلمانية المتطرفة حزبًا حتى يشرع في تأسيس حزب جديد، وكأنه سيزيف صاحب أسطورة الصخرة الذي لا يمل من دفعها، ولعلَّ صحيفة (ملي غازيتيه) هي أول صحيفة إسلامية تصدر في عهد أربكان منذ قيام الجمهورية التركية، والتي كان شعارها (قل جاء الحق وزهق الباطل).
أدرك أربكان أن تركيا يجب أن تكون حاضرة في معادلة العلاقات الدولية، وخاصة مع الدول العربية والإسلامية، فتركيا ستكون أقوى بعمقها العربي والإسلامي؛ لذلك دعا إلى إقامة وتفعيل سياسة الأسواق المشتركة، ولا يخفى على أحد أن القدس كانت في قلب أربكان وكيف لا؟ وهي من أهم مرتكزات السياسية الأربكانية في تعاطيه مع ملف السياسة الخارجية.
ويعيد التاريخ نفسه، فكما أقصي من قبله السلطان عبدالحميد عن عرشه بسبب رفضه بيعه فلسطين لليهود أقصي أربكان عن الحياة السياسية بسبب مكانة فلسطين في سياسته، فقد عمل العلمانيون المتطرفون على إصدار قرار من المحكمة تم بموجبه إبعاد أربكان عن الحياة السياسية مدة خمسة أعوام، وذلك بعد مشاركته بأمسية في العاصمة أنقرة كانت تدعو إلى نصرة القدس، وقد كان يشرف عليها حزب الرفاه الذي يرأسه، هذا عدا عن المظاهر الإسلامية التي أخذت بالانتشار، مما جعل العلمانيين ينظرون بعين الريبة إلى أربكان الذي يهدد علمانية الدولة في رأيهم، لذا كان القرار ألا يكون لأربكان أي مشاركة في المشهد السياسي التركي، ولأنه يعرف كيف يجيد التعامل مع تلك المحاكم وقراراتها فقد أشرف وعمل على تأسيس حزب جديد اسمه (الفضيلة)، وأسند رئاسته لأحد تلاميذه.
نعم لقد استطاعت القوى العلمانية المتطرفة منع أربكان من العمل السياسي، ولكن أحد تلاميذه وهو رجب طيب أردوغان يحقق نجاحًا واختراقًا مذهلًا في خريطة السياسة التركية عندما قام بتأسيس حزب العدالة والتنمية، وما حزب العدالة إلا ثمرة طيبة لأردوغان الذي ينتمي فكريًّا إلى مدرسة أربكان.
ويعيش أربكان مع مصحفه وسبحته كما عاش من قبله السلطان عبد الحميد في إقامته الإجبارية، لقد كان أربكان فارسًا مغوارًا في ميدان السياسة، وعرف كيف يراوغ خصومه من العسكر والأحزاب العلمانية المتطرفة زمنًا طويلًا، ولكن تغول المؤسسة العسكرية كان أكبر منه هذه المرة.
وفي عام 2011م أعلن جسده الهزيمة أمام المرض، ويأتي الموت ليقبض تلك الروح الطيبة التي عاشت لله وللأمة، توفي هذا العملاق عن عمر 85 عامًا، ولعل جنازته كانت الاستفتاء الحقيقي على مكانة ذلك الرجل في الشارع التركي، فقد خرج أكثر من مليوني مشيع في وداعه... نعم خرجوا وقلوبهم تذرف حزنًا على أستاذهم الذي ظلَّ يتنفَّس سياسة حتى الرمق الأخير، والذي علم تلاميذه كيف يجيدون فن التعاطي مع الديمقراطية، نعم لقد رحل أربكان محمولًا على أكتاف تلامذته... رحل أربكان بجسده، ولكنَّ روحه مازالت تسكن وجدان طلابه، ولعلَّ رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان خير شاهد على ذلك.
رحم الله أربكان فقد ملَأ كلَّ قلب وعين وأذن.
copy short url   نسخ
28/06/2021
5927