+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
لا يوجد شاعر في الأرض لم يسمع بآرثر رامبو، الشاعر الفرنسي العبقري الذي أنجز مشروعه الشعري الكامل وهو لم يتعد التاسعة عشرة من عمره، ثم توقف تماما عن كتابة الشعر، ومع ذلك يعتبر أحد أهم شعراء المدرسة الرمزية، وأكثر شعراء الأرض تمردا، عاش حياته القصيرة مسافرا بوصفه تاجرا بين مدن وبلدان العالم، يقال إنه تاجر بكل شيء، عاش حياته القصيرة (توفي بمرض السرطان عن عمر الثامنة والثلاثين) متهتكا ومتمردا إلى أقصى حد، من يقرأ شعره الاستثنائي لا يمكن أن يصدق أن هذا العبقري قد تاجر بالسلاح وارتكب جريمة قتل في قبرص كما يقال عنه، لكنه كان شاعرا عبقريا ذا سلوك نافر وحياة بالغة التعقيد تعكس بقايا طفولته البائسة غالبا.
لا يوجد شاعر في الأرض أيضا لم يسمع بالشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا، ولا يوجد من يدعي الثورة والانتماء للحرية إلا وسمع به وقرأ قصائده العظيمة الوطنية والعاطفية، قلة من شعراء العالم استطاعت أن تكتب قصائد حب كالمائة قصيدة حب التي كتبها لحبيبته ماتيلدا، هذا الشاعر الثوري التقدمي النادر، كان له ابنة تدعى مالفا، أنجبها من امرأة هولندية تعرف بها في أندونيسيا وتزوجها، وحين أنجبت ابنة لديها إعاقة دماغية، تخلى الشاعر الثوري عن الزوجة والابنة معا، ولم يعترف بأبوته لمالفا التي ماتت وهي طفلة.
لا يوجد مثقف في العالم لا يعرف الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي أثر على غالبية الفلاسفة الذين أتوا بعده، والذي يقال إن اليعاقبة الذين قادوا الثورة الفرنسية كانوا من مريدي أفكاره العظيمة، جان جاك روسو كتب كتابا اسمه (أيميل) يتحدث فيه عن القيم العائلية وعن تربية الأطفال وأهمية تأهيلهم للمجتمع، روسو نفسه صاحب هذا الكتاب أنجب من امرأة، رفض أن يتزوجها، خمسة أطفال وضعهم كلهم في الميتم فور ولادتهم بذريعة الحفاظ على سمعة والدتهم التي أنجبتهم منه دون زواج.
خوان ميرو رسام ونحات إسباني لا يقل شهرة عن بيكاسو، ويعتبر واحدا من أهم رموز السريالية الفنية، وامتاز عن باقي السيرياليين بنزوعه نحو التبسيط والاختزال، معتمدا على خيالات الطفولة وأحلامها في أعماله التي لا يمكن لمن يراها إلا ويصاب بدهشة، فهو أمام لوحة رسمها فنان محترف وعبقري يمتلك قلب طفل يلعب، خوان ميرو الجميل الطفل في أعماله الفنية ساند الديكتاتور فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية ودعمه حتى النهاية، وتعالى عن الهم الشعبي لأبناء بلده وتخلى عن القضايا المصيرية التي حركت الثورة ضد فرانكو، معتبرا أن الفن يجب أن يكون منفيا عن الواقع، وهو ما عرضه لانتقادات عديدة.
أبو الطيب المتنبي أشهر شعراء العرب، الشاعر الذي كتب قصائد فخر بنفسه لم يكتب مثلها أحد، كان شاعرا متكسبا ومرتزقا، (شاعر بلاط) كما كان يسمى الشعراء المداحون للملوك، كان يمدح من يعطيه المال ويهجو هجاء مرا من يمتنع عن ذلك، أو من لا يعطيه ما كان يظن أنه يتناسب مع عبقريته ومكانته.
يمتلئ التاريخ البشري بعباقرة في كل أنواع الفنون والأدب، عباقرة وملهمين ومؤثرين في الوعي الجمعي الجمالي والثوري البشري، كان سلوكهم مناقضا تماما لنتاجهم الفني أو الفكري أو الأدبي، ومتنافرا معه بشكل مهول، ولم يسلموا من انتقاد سلوكهم سواء الإنساني أو السياسي، في حياتهم وبعد رحيلهم، لكن أعمالهم بقيت خالدة، ومع مرور الزمن لم يتبق من سير حياتهم غير ما يكتب في (الويكيبيديا) أو ما يشبهها، كنوع من التوثيق، بينما أعمالهم تنتشر في كل العالم، تقرأ وتشاهد وتسمع دون أن يكون جمهورها معنيا بما كان عليه سلوك أصحابها قبل عقود أو قرون من الزمن.
نحن اليوم، نحاكم مبدعين معاصرين كثرا، عربا وغير عرب، على مواقفهم السياسية، وعلى انحيازاتهم ضد قضايا الشعوب ولصالح الاستبداد في كل العالم، لسنا مخطئين في هذه المحاكمة حتما، ولسنا متجنين، فمن لا ينحاز للقضايا العادلة في اللحظات التاريخية الحاسمة لا يمكن التعامل مع منتجه الإبداعي بموضوعية، سوف يظل أثر موقفه مخيما على رؤيتنا لمنتجه الإبداعي أو حاجبا لهذا الإبدع عن أرواحنا المتلقية، غير أن ذلك يحدث بسبب آنية حدوثه وراهنيتها، وراهنيتنا معه، بسبب اللحظة التاريخية التي أوجدتنا معا، بينما في القادم من الزمن، في التاريخ القادم، سوف يتلقى آخرون أعمال هؤلاء المبدعين بشكل مختلف عن تلقينا لها، كما نتلقى اليوم نحن أعمال المتنبي أو رامبو أو نيتشه أو ميرو أو نيرودا أو روسو أو غوغان أو أي مبدع في أي مجال لم يتناسب سلوكه مع إبداعه.
copy short url   نسخ
22/06/2021
1836