+ A
A -
مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل
مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
أكثر الأسئلة صعوبة في عالم القراءة هو ذلك السؤال ثلاثي الأبعاد: ما هو الكتاب المقترح لمن يُريد التعود على القراءة، ويصحبه في قراءة ممتعة، وهو كتاب مفيد غني؟ مجرد التفكير في هذه الثلاثية أمر صعب، خاصة من خلال اختلاف تقديرات القارئ نفسه وما بين توجهات المؤلفين المتعددة، بل ومزاج القارئ ذاته.
قبل كل شيء أُشير إلى أنني لستُ من أولئك المتمكنين في عالم القراءة المكثف، لقصور «فيني» بكل تأكيد، وبسبب اتجاه تبنيّتُه في حياتي المعرفية في مصاحبة الكتاب، والصبر في قراءاته ومراجعته، لتحصيل أكبر فائدة ممكنة تدعم حصيلتي المحدودة.
كما أن مصطلح القارئ والقراءة هنا يعني بحسب الرصد والتجربة في حديث بعض من نتابعهم، أو نتحاور معهم، أو ما نلاحظه في سلوك القرّاء مع الكُتب يعني أكثر من مدار، فهو ممكن أن يكون قراءةً قويةً للاستيعاب والوعي تستكمل الكتاب بتركيز، وممكن أن يكون قراءة عابرة تطوي الصفحات وتتعرف على فكرة المؤلف بالمجمل، تعي أشياء ويغيب عنها أشياءً أخرى، وأيضاً ممكن أن تكون القراءة فسحة نظر تُقلّب دفتي الكتاب، وتَعبُرُ مقدّمته، وبعض فصوله وسطوره وخاتمته.
وكل ذلك أصناف قراءة مشروعة، ما دام المقصد تحصيل المعلومة أو حتى الاستفادة من الوقت، مع خير جليس في هذا الزمان وكل زمان، سوى أن من أدب القارئ أن يتحفظ على حسم الرأي في كتاب قرأه دون استكمال، فيُعطي رأياً حتمياً عنه، إلا إذا كان قد استوعب فصل الكتاب محل النظر والجدل.
ومن أدب أهل العلم المتقدمين، في كتب التراث الدينية والأدبية، استخدام مصطلحات تُفيد بعدم الجزم حين إعلان رأيهم، رغم أن قراءته لذلك الكتاب المخطوط أو الطبعة المنسوخة في حينه، ذلك الزمان أدق من قراءتنا المعاصرة، فتجد ذلك العالم أو الأديب أو الرحالة يقول ولعله (أي المؤلف) قصد كذا، أو غلب على الظن أن المعنى المقصود كذا، أو رُوي أنه، أو بلغني عن بعضهم، وهكذا.
فهذا من أدب القراءة والتعلم، فلو حضرت مجلساً أحببت أن تشارك الصحب في الحديث عن كتاب أو مؤلف، فانتبه للزوميات ظنك لم تلزم هذه الشخصية، أو ذلك المؤلف، لكونك قد قرأت بعض رأيه وغابت عنك آراء أخرى، لكن بالإمكان أن تَبرُز لك بصورة واضحة نزعة المؤلف في هذا الجانب، فتكبتها أو تطرحها بين منتديات رفاقك، أو مدوناتك العامة والخاصة.
إن هذه المساحة من أدب القارئ مع الكتاب، تُضفي عليك مسحة خُلق، وتقوى تورع تكتسي بها شخصياً احتراماً لذاتك في ضميرك، يُشعرك بعدم التعدي على المؤلف، أو لصق فكرة به لم تتأكد عنه، كما أن هذا الأدب يُشعر محيط صداقاتك ورفاق رحلاتك ومجالسك بدقة رأيك، والرأي المحترم في هدوئه خير من الضجيج الصاخب في دعواه، وخاصة إذا علا الانفعال بينك وبين الجلساء، فاحتدت مشاعرك الشخصية، وباتت تؤثّر على حتميات تزعمها، لم يكن لها دليل حاسم في واقع الفكرة، أو جدل الكتاب، أو تاريخ المؤلف. لكن أين الكتاب الذي حدثتكم عنه في العنوان؟ أهداني مؤخراً أ. محمد عبد العزيز وهو مثقف مهذب قدير من أبناء مصر كتاب من تأليفه، تجتمع فيه المميزات الثلاث التي ذكرنا، مشجع للانطلاق في القراءة، أو العودة لها، وممتع للغاية، ويمنحك حقيبة من الفوائد في رحلة التراجم المتعددة في هذا العالم.
فهل تقرأه في جلسة قهوة؟ هذا ممكن بحسب جرّة القهوة التي نَصبتها أمامك، الكتاب معنون بـ «مودة الغرباء - حكايات من التراجم والمذكرات»، وبالتالي ممكن أن تكون كل رحلة وضعها المؤلف بين يديك عن سيرة وترجمة لشخصية هو خلاصة لطيفة لكتاب كامل، وهكذا رغم أن الكتاب في أكثر من 300 صفحة، إلا أنه مفروز الموضوع في كل شخصية، تناولها أ. محمد الهجين مؤلفه، وقد جمع لك هجيناً راقياً ولذيذاً، ومع تنوعه فقد مارس عباراته المؤدبة مع رفاق رحلته، رغم تباينهم إلا أن أخلاق المؤلف وذوقه وحسن توقيعاته الذكية كانت الجامع المفيد لصالح القارئ السعيد.
copy short url   نسخ
20/06/2021
2065