+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
مرت قبل أيام الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل الشاعر العربي الكبير نزار قباني، الذي غادر الحياة في 30 أبريل عام 1998 في لندن إثر نوبة قلبية، وتم نقل جثمانه إلى دمشق مسقط رأسه حيث دفن في مقبرة باب الصغير، بعد جنازة شعبية كبيرة جابت تقريبا كل شوارع وحارات دمشق القديمة قبل الوصول إلى المقبرة، وقيل وقتها، إن نعش نزار قباني حمل على الأكتاف طيلة التشييع، حيث لم يقبل محبوه أن يوضع جثمانه في سيارة مغلقة، كما لو أنهم كانوا يريدونه أن يلقي نظرة وداع على الشام قبل أن يوارى ثراها.
محظوظا كان نزار قباني في حياته وفي موته، ربما أحد أكثر المبدعين السوريين المعاصرين حظا، إذ عاش حياته مترفا بسبب انتمائه إلى أسرة دمشقية برجوازية منفتحة، وعمله بالسلك الدبلوماسي كسفير لسوريا أتاح له التنقل بين دول العالم والاطلاع على ثقافات مختلفة، حين كان العالم مقفلا ومغلقا قبل ثورة الاتصالات الحديثة وقبل حركة الترجمة الكثيفة، كما أن انتماءه البرجوازي وعمله الدبلوماسي أتاحا له حصانة كبيرة مكنته من التطرق إلى مواضيع شعرية كانت تعتبر من المحرمات ذلك الوقت، (ثالوث الجنس والدين والسياسة)، رغم أن تطرفه لذلك الثالوث لم يكن عميقا وجذريا ويهدف إلى تأصيل حركة وعي تنويرية في المجتمع العربي، بل كان ينطلق من منشأ ذاتوي وأنوي، حيث في المحرم السياسي، هاجم النكسة والمتسببين بها عام 1967، شأنه شأن الكثير من شعراء تلك الفترة، وحافظ لاحقا على علاقة جيدة و(دبلوماسية) مع الزعماء العرب، الذين شتمهم جميعا، لاحقا، إثر رحيل زوجته العراقية بلقيس الراوي في تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981، دون أن يحمل طرفا بعينه مسؤولية ما حدث، رغم أن التفجير كان نتيجة الصراع السياسي الذي حمل طابعا مذهبيا، بين العراق وإيران تلك الفترة، حيث أعلن حزب الدعوة (الشيعي) وقتها مسؤوليته عن التفجير، ومع ذلك يصنف نزار قباني بأنه الشاعر المناهض للزعماء العرب والمعارض لهم، ويرفض محبوه حتى مناقشة ما يخالف هذا التصنيف.
أما في محرم (الجنس)، فهو كان ذكوريا جدا في علاقته بالمرأة، إذ لم يكتب يوما في نقد الثقافة المجتعية التي تضع المرأة في نسق تابع للرجل، ولم يتطرق للمنظومة التي تجعل المرأة تابعة، حتى حين طالبها بأن (تثور)، فمن أجل حريتها الجنسية، وحقها بامتلاك حرية جسدها، ورغم أهمية هذا الأمر وخطورة طرحه تلك الفترة الزمنية إلا أنه كان طرحا سطحيا، فلا يمكن المطالبة بحرية جنسية دون المطالبة بحريات سياسية وبحقوق مواطنية للجميع، وهو شيء لم يقترب منه نزار قباني لا في شعره ولا في نقده، ربما لهذا سمي بشاعر المرأة، رغم أنني شخصيا أرى أنه كان أكثر ذكورية في شعره عن المرأة من الكثير من شعراء جيله، وبما يخص محرم (الدين)، فأيضا لم يرافق قصائده، التي اعتبرها الإسلاميون تجديفا بحق الذات الإلهية، نقدا للمنظومة السياسية المتحالفة مع المؤسسات الدينية بقصد إرساء قواعد الاستبداد، عبر إبقاء الشعوب ملهية في شؤون الغيب متجاهلة استخدام العقل والشك وطرح الأسئلة الجذرية التنويرية؛ باختصار بقي شعر نزار قباني على السطح في اختراقه للثالوث المحرم، لم يتعمق في جذر مشاكل المجتمع العربي، لكنه كان محظوظا بملايين المحبين الذين روجوا عنه جرأته واختراقه للمحرمات.
أما حظ نزار قباني في موته، فيتجلى بأن جثمانه نقل من لندن إلى دمشق ليدفن في مسقط رأسه، في وطنه، بجانب قبر ابنه الراحل الشاب، وقبور عائلته، فالوطن هو حيث تجد لك مكانا لتدفن بالقرب من أحبابك، ساعة موتك، لا أن تدفن في مكان لا جذور لك فيه، كما يحدث الآن مع آلاف السوريين، ومنهم مبدعون ومفكرون كبار، لم يسمح لمحبيهم وعائلتهم بإقامة صلوات عن أرواحهم، وليس فقط لم يسمح بنقل جثامينهم ليدفنوا في تراب وطنهم الذي أحبوه.
غير أن كل ما سبق شيء لا علاقة له بالشعر، الشعر الذي استطاع نزار قباني اللعب بعجينته كما يشاء، بحيث جعله يبدو كما لو أنه في متناول العامة، التي لا تربطها بالشعر والأدب أية صلة، بيد أن هذا القرب لم يكن سوى خيط يمكن كشفه دون جهد، حيث حاول مئــات آلاف العرب تقليـد شـعـر قـبانـي، غيـر أنهــم لم يتعدوا كونهم مقلدين له، بلا أية لمحة إبداع خاصة بأي منهم، ليبقى هو متفردا بأسلوبه ولغته الخاصة التي لا تشــبه أحدا لا قـبلــه ولا من مجايليه مشكلة مدرسة في الشعر العربي بقي هو الأستاذ الوحيد والمتفرد والاستثنائي بها.
copy short url   نسخ
04/05/2021
1903