+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
كل ما أتمناه اليوم أن أستعيد ذلك الشغف الاستثنائي الذي كان يتملكني في مرحلة مبكرة جدا من عمري تجاه الكتب والقراءة، كانت الكتب في بيتنا (بيت أهلي)، في كل مكان، فعدا عن غرفة المكتبة (غرفة والدي) المغطاة جدرانها من الأرض إلى السقف بأرفف خشبية تحمل كتبا في كل فنون الأدب وأنواع الفلسفة والفكر، كانت الكتب موجودة أيضا في كل الغرف، على الأسرَّة في غرف النوم، على الطاولات الصغيرة، في غرفة الجلوس، على الكنبات، في كل مكان حرفيا، كان هذا بالنسبة لي هو النعيم بحد ذاته، أن أجد الكتب كيفما التفت، وأن أقرأ ما يحلو لي، دون أن يوجهني أحد إلى ماذا ينبغي لي أن اقرأ في تلك السن الصغيرة، كانت الكتب هي الغابة التي أوصلت أليس إلى بلاد العجائب، لم تكن أليس سوى أنا، الفتاة المحظوظة بهذا العدد الهائل من الكتب حولها، والمحظوظة بشغفها للقراءة، إلى درجة إهمالها واجباتها المدرسية لصالح قراءة الكتب (مسرح ورواية وشعر وقصص قصيرة وكتب فكرية في مرحلة أكبر قليلا)، عدا طبعا عن الكتب التي كانت محصصة لمن في سني ذلك الوقت (الألغاز وسير المشاهير المختصرة)، ولم أكن أكتفي بكتب البيت، كنت أذهب إلى مكتبة المدرسة وأنتقي ما ليس موجودا لدينا وأستعيره وأقرؤه، وكنت أنتظر معارض الكتب في دمشق كي أشتري كتبا جديدة، وحين كبرت وعشت وحدي، كان أول ما أؤسسه في البيت هو مكان المكتبة التي أعرف أنها سوف تمتلئ بعد وقت قصير، لطالما كانت الكتب والمكتبة هي أكثر ما يسبب لي التعب في عملية التنقل بين بيت وآخر، (عشت في بيوت كثيرة مستأجرة، لم أستقر في أي بيت مدة تتجاوز الثلاثة أعوام)، ومع ذلك لم أستطع التخلص من هذه العادة، عادة شراء الكتب واقتنائها، بعد خروجي من دمشق لا أعرف أين أصبحت مكتبتي التي كانت تضم أكثر من ألفي كتاب، مثلما لا أعرف أين أصبح كل ما تركته خلفي على أمل العودة، كله قد فقد، بعد أن استولى صاحب الشقة التي كنت أستأجرها على البيت، عقابا لي على معارضتي للنظام، لا بأس، هي خسائر لا تذكر قياسا بخسائر السوريين.
يقول ألبرتو مانغويل، الكاتب الأرجنتيني الشهير، الذي كان قارئا لبورخيس (الضرير)، وصاحب أجمل الكتب عن المكتبة والقراءة: (تاريخ القراءة، تاريخ المكتبة، المكتبة في الليل)، يقول في كتابه (تاريخ المكتبة)، «الإلحاح للحصول على كتاب وتملكه هو نوع من الشهوة التي لا يمكن مقارنتها بأي شهوة أخرى» ؛ لطالما كان هذا حالي مع الكتب، حتى هذه اللحظة، التي أصبحت فيها قليلة القراءة، قراءاتي مزاجية ونادرة، ولم أعد أمتلك ذلك الشغف القديم، غير أنني مازلت أعاني نفس المقاومة الضعيفة أمام الكتب، ما أن أدخل مكتبة لسبب ما، حتى أخرج منها بعدد كبير من الكتب، وأنا أدرك جيدا أنني لن أقرأها كلها، أو أنها سوف تبقى في قائمة الانتظار التي لا أعرف متى تنتهي، بيد أنني لا أستطيع التخلي عن هذه العادة، أفكر الآن، وأنا أعيش في القاهرة، ولدي مكتبة بها عدد كبير من الكتب، أنني لو اضطررت لمغادرة القاهرة لأي سبب من الأسباب التي تجبر السوريين على ترك أماكن عيشهم الحالية، فإنني سوف أفقد مكتبة أخرى كالتي فقدتها في دمشق، وأفكر بالسبب الذي يجعلني أشتري المزيد من الكتب دائما، إلى حد أنني أضيف كل مدة رفوفا أخرى إلى المكتبة كي تستوعب ما لدي، فلا أجد سببا غير تلك الشهوة التي تحدث عنها مانغويل، شهوة الحصول على كتاب وتملكه، رغم علمي أنني سأفقده بعد حين؛ لكن ربما هذا ما يصنع لي حياتي، هذه العادة الوحيدة التي بقيت لي منذ سنوات المراهقة الأولى، وربما هذه العادة هي ما تربطني بكل الماضي الذي يخصني، إذ أن علاقتي بالكتاب كانت هي المعيار لكل تفاصيل حياتي.
copy short url   نسخ
27/04/2021
1319