+ A
A -
داليا الحديدي
كاتبة مصرية
في أول عهده بالغربة، كان يذهب لمقاهي الإنترنت لمراسلة أهله إذ لم يكن في ذاك الوقت وسائل تواصل حديثة.
كتب رسائل مطولة للجميع، لكن نادرًا ما كان يصله رد! وكلما أطال الرسالة، أطالوا الصد، وأحيانًا يكون النزير من الرد، أقسى من عدمه.
وحتى الردود كانت مختصرة مبتورة على شاكلة «نراك على خير» أو«ما تقطع، لكن ما تعود، وحديث ملؤه نبرة» «تململ» يحثه على إنهاء المكالمة، ما يترك في نفسه حمم من (اهٍ)، وجمر من (لو)، وبراكين من هواجس (لما).
بكل اتصال، يقال له: إياك والعودة للوطن، الظروف صعبة.
كان يرجو الأهل الكف عن هذ الحديث سيما مع زوجته، فلقد كان يحاول إقناع شريكته أن أهله يريدونه وبشدة، بالوقت ذاته، كانت يطمئن الأقارب أن لا نية ولا قدرة له على ترف العود. كان الأمر شبيها بضيف يتمنى من مضيفه - لو زاره - أن يتمسك به، علمًا بأنه لن يبات ليلة عنده، بل لن يزوره من الأساس وكيف يزور وهو مغترب؟
كان بتوسل معارفه بالرن عليّه، مجرد رنّة مجانية تشعره أنه على البال.
أمضى سنوات، ينظر إلى معصمه، يترقب الآذان ليرن على الأهل مباشرة عقب رفعه، لكن هيهات أن تصله رناتهم.
يتصل ويرن، ووحده العدم يجيب، بحجة «لا نريد تكلفتك» علما بأنهم لكثر ما كلفوه.
لاحقاً، فهم من سائر المغتربين أن أهل الذكور يُفّعلون خاصية الرنين لدعم الوصال لغرض وعليه أن يبرز لينجز.
وبالفعل اهتم بتفعيل خاصية الدعم المادي فصارت تأتيها الرسائل الهاتفية المجانية في المناسبات كما والرنات.
{{
اخشوشن العمر في الغربة، اخشوشن حتى بلغ الفهم مبلغه، فأدرك أن البعض يريدونها مادية أو هُلام علاقات موسمية في المناسبات ليس إلا، فيما كان يبحث عن الإنساني في العلاقة
عن «الطمأنينة الأبدية» التي وصفها أمل دنقل.
كان يفتش عن «سيفان سيفك.. وصوتان صوتك».
ثم تأكد أن هناك من يحرص على عدم حرق العلاقة، والتمسك بوصال على شاكلة "شعرة معاوية"
مضى ثلث العمر في صيف الغربة، ومع كل نقطة عرق، كان يهفو لرنة من الوطن تجفف وتخفف، لكن هاتفه كالبزق الساكن، وكم ودّ لو عزف أرق الألحان.
جواله كسعف النخيل، ثابت لا يحركه الأثير إلا لو الأمر جلل. وكم تمنى رجفة توشي بنسمة آتية من الوطن.
{{
يتصفح هاتفه يوميًا، فلا تصله سوى رسائل تسويقية، لطالما كانت يبخسها حقها.
لاحقًا، غدا ينتظر الخميس ليفض بعناية رسائل المطاعم، والحوانيت، تلك التي يحترم فيها وضوحها «تعالي، ربحنا واربح».
..
مضى شتاء العمر في الغربة، وقلبه حارة كانونية، سماؤها كمُزن «ليفربوول» في بكاء دائم. ومع كل برقة، يستغيث برنة تعيد صفو الحياة لمن يعيشون البرد تحت الأقبية الطينية الحمراء، يصبو لرنة تخرق خلوة الاغتراب بلا استئذان.
{{
أقبل خريفه في الغربة، وتبدلت الأحوال
..
لدى زياراته للوطن، يقابل بعض المعارف، فيبادرونه
نعم، نعم نذكرك، أنت زهرة الأقحوان
فيصحح لهم اسمه
يبدو أن الزهور التي تعيش في غير تربتها تذبل في ذاكرة النسيان
{{
لم يزَهَدَ في قرع الهاتف ممن روي النيل نفس أوردتهم؟
لما يكف عن رش البسمات عند كل اتصال؟
لم يتعال على «شلنات» الاهتمام؟
لم يكفر بالأثير و«ألو»، وإن لم يرتشف منهما وصال يؤمن الري العذب.
لم يضجر من مسالك السُدى وهواتف السراب وأسلاك بلا حرارة.
لكنه شعر بحاجته لمسحة كبرياء تحول بينه وبين تسول الرنّات.
يبدو أن الأسلاك الهاتفية لا يُعول عليها لوصل من كان يربطهم حبل سري واحد.
copy short url   نسخ
10/04/2021
2012