+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
الشوارع القريبة إلى ميدان التحرير مغلقة بالكامل، وضعت الأجهزة المعنية الحواجز في هذه الشوارع قبل مائتي متر من الميدان، أعيش في شارع يطل على ميدان التحرير، كان الحاجز تحت بيتي تماما، حيث وقف مئات المصريين خلفه، يحاولون رؤية الحدث الأهم في 2021: نقل المومياوات الملكية الاثنتين والعشرين من متحف القاهرة الشهير، إلى المتحف المصري القومي الذي أنشئ حديثا في الفسطاط/‏ القاهرة القديمة، حيث توجد القعلة الشهيرة وجامع عمر بن العاص، والكنيسة المعلقة، وكنيس يهودي أثري، وهو ربما يكون المكان الأفضل في القاهرة لإنشاء متحف قومي يلقي الضوء على كل الحضارات التي عبرت مصر منذ القدم وحتى اللحظة، ولا يقتصر على الآثار الفرعونية المهولة فقط.
كان مدهشا لي، وأنا أتابع الحدث متنقلة بين شاشة التلفاز وشرفتي المطلة على ميدان التحرير أنني لا أسمع أي صوت صادر عن المئات المتجمهرين في الأسفل، رجالا ونساء ومراهقين، عائلات مصطحبة أطفالها معها في محاولة لرؤية بعض تفاصيل الحدث بالعين لا عبر الشاشات، كانوا كما لو أن على رؤوسهم الطير عند بدء الاحتفالية، ومع انطلاق الاوركسترا بالعزف من قلب الميدان متناغمة بشكل مدهش مع باقي الاوركسترا في المتحف القومي، أنصت الجميع للموسيقى المدهشة وللغناء الأوبرالي (قدمت مغنيات الأوبرا نصوصا من كتاب الموتى الفرعوني باللغة الهيرغلوفية المنطوقة) بألحان عزفت على آلات مختلطة غربية وشرقية وأخرى كانت تستخدم زمن الفراعنة. أي أن ما قدم من الموسيقى لا يمت بصلة للمزاج الشعبي الفني المصري، لا الشرقي التطريبي بكل تراثه، ولا الشعبي (المهرجانات) الذي تسمعه فئات كبيرة من المصريين حاليا، كانت نوعا آخر من الموسيقى غير المعتادة، فرضت هيبتها على الجميع، فعم الصمت لتبقى أصوات الآلات ومغنيات الأوبرا والأوركسترا هي الصادحة فقط، في مشهد مهيب لا يمكن أن يمر عابرا، هكذا، إذ لا بد وان يتساءل المرء عن أهمية الفن وعن مقولة (الجمهور عايز كده) التي يتم بها تبرير كل الانحدار الفني والأدبي والثقافي.
كانت الجماهير المجتمعة في الشوارع غالبيتها من (الفئات الشعبية) أو من الطبقة المتوسطة الدنيا، وهي فئات لا تستمع عادة لموسيقى نخبوية كالموسيقى الكلاسيكية وما يلحق بها، ما الذي جعلها إذا تنصت بصمت إلى موسيقى لم تعتد آذانها على سماعها؟ هل هي فقط جمال الموسيقى التي قدمت على مدار الاحتفالية وجمال الأصوات المغنية؟!
شخصيا يمكنني القول إن الموضع يتجاوز جمال الموسيقى ليشمل ما هو أكثر أهمية في اعتقادي، هيبة المناسبة نفسها، المومياوات موجودة في المتحف المصري منذ عشرات السنين، وأظن أن الجميع قد رأها سابقا، لكن ثمة شعور آخر حدث أمس في الاحتفالية، بدا الأمر كما لو أن سبعة آلاف سنة عادت إلى الزمن الحالي، كما لو أن ملوك وملكات مصر القديمة قد خرجوا ليستعرضوا الجماهير في موكب مهيب يليق بهم، كما لو أن الجماهير بدورها خرجت لتلقي التحية على ملوكها، تواطؤ متبادل بين التاريخ والحاضر، في بلد مثل مصر، لا يعرف شعبه حتى الآن إلى أية هوية ينتمي: هل هم عرب أم مسلمون أم أفارقة أم فراعنة أم أقباط ؟ وتحدث صراعات مجتمعية خفية وعلنية، ونقاشات متواصلة على منصات التواصل الاجتماعي حول أمر، عادة لا يكون مهما في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية التي تضع المواطنة في النسق الأول، قبل أية هوية أخرى، ولكن في بلادنا يصبح هذا أمرا مهما جدا حيث صراع الهوية (الذي عادة ما تؤججه أنظمة الاستبداد لتبقى محافظة على مكانتها)، هو الصراع الموازي لصراع البقاء على قيد الحياة.
ثمة شيء حدث لساعات، كأن المصريين اكتشفوا أن هويتهم الأصلية هي الهوية الفرعونية، وأن ملوكهم أحياء وأنهم معتادون على كل ما حدث وعلى كل ما سمع، وإلا ما الذي جعل تلك الجماهير المعتادة على الكلام المتواصل بأصوات مرتفعة تصمت صمتا مهيبا طيلة ساعات الاحتفالية؟ ما الذي جعلها أيضا، في اللحظة التي بدأت العربات التي تحمل المومياوات تدور على ميدان التحرير، أن تتخذ وضعية الاستعداد وتلقي تحية السلام طيلة وقت مرور العربات الملكية غير الإحساس أنهم أمام ملوك من لحم ودم وليس مجرد مومياوات محنطة ؟!
كان التاريخ القديم في القاهرة من لحم ودم فعلا، من عظام وشعر وملامح لم تستطع آلاف السنين محوها بالكامل، هذا التاريخ العظيم الذي ما زالت أسراره حتى اللحظة لم تكتشف بأكملها، هذا التاريخ المدهش والحضارة المذهلة التي لا مثيل لها في العالم، كيف يمكن أن تستعيد مصر مجده ومجدها معه؟ سؤال لا بد من أن يسأله كل محب لمصر وكل مدرك أنها ميزان الشرق الأوسط الحقيقي، في كل شيء بدءا من الفن والثقافة والعلم وانتهاء بالسياسة، والتي لسوء الحظ حين تنحدر تأخذ معها في طريق انحدارها حتى الثقافة والفنون، ليصبح الإبداع مجرد ذاكرة تستعيدها الشعوب لساعات قليلة مع كل حدث.
copy short url   نسخ
06/04/2021
1691