+ A
A -
بقلم- داليا الحديدي
كاتبة مصرية
بصباي، كنت كسواي أعتقد أن المعرفة ما هي إلا إضافة معلومات جديدة تغذي إدراكنا أو إضافة ما نستخلصه من تلك المعلومات. ومن ثم، فقد عشت دهراً شأني شأن هواة جمع الطوابع، يستهويني جمع كتب المعلومات العامة، لاعتقادي أني كلما جَمّعت المزيد من المعلومات، ازددت علماً.
وبمرور الوقت التبس الأمر عليّ، وبات هذا اليقين يتزعزع، فقد زارني عشية إحدى الليالي هاجس لحوح يصر أن الزخم المعرفي ُيشتت الإدراك عوضاً عن إثرائه.
الحقيقة، لم أكن لأجرؤ على الجهر بأن النهم المعرفي على إطلاقه قد يكون له عواقب سلبية، إلى أن قرأت جملة لعالم الاقتصاد الراحل الدكتور (جلال أمين) في كتابه (مكتوب على الجبين) حين كشف عن خاطر زاره -هو أيضاً- يوم تاه في الطريق السريع بإحدى مدن الولايات المتحدة، رغم وجود عشرات اللافتات التعريفية التي من المفترض أن تساعده على وصول ميسر لهدفه، إلا أن اطلاعه بدقة على كل ما هو مكتوب في تلك اللافتات زاده تيهاً.
يومها كتب:
«إن المعرفة ليست إضافة معلومات جديدة، بل هي في الواقع، عملية استبعاد بعض المعلومات من الكمية الضخمة من المعلومات المطروحة عليك».
فقد اتضح له أن ما ارتكبه من أخطاء لم يكن بسبب قلة المعلومات التي اتبعها أثناء سيره، بل كثرتها، كما تبين له لاحقاً أن هناك لافتات يتحتم الالتفات إليها، وأخرى من الضروري تجاهلها.
فرحت بمقولة د.أمين، وبت أكثر سعادة حال اطلاعي على طرح الفيلسوف (برجسون) في مناقشته للعلاقة بين الذاكرة والإدراك الحسي سيما حينما ذكر التالي:
«إن وظيفة المخ والجهاز العصبي والحواس هي في الأساس استبعادية وليست إنتاجية أو إضافية».
فكل شخص لديه قدرة على تذكر وإدراك كل ما مر به من أحداث في أي مكان في العالم.
هنا تبرز وظيفة المخ لحماياتنا من الضياع، وسط خضم تلكم الكمية اللا نهائية من المعارف التي لا تعنينا في شيء، وذلك بأن يستبعد من أذهاننا الجزء الأكبر مما نتعرض له من مدركات في أي لحظة من اللحظات تاركاً فقط ذلك الجزء المختار بعناية، والذي يكون ذا فائدة عملية لنا.
فكل شخص منّا، يحمل ذهناً ضخماً، ويجب أن يمر ذلك الذهن الضخم من خلال (فلترين) صمام المخ والجهاز العصبي، فلا يسمح بالخروج من هذا الممر إلا بجزء ضئيل للغاية، يمثل ذلك النوع من الوعي الذي يساعدنا على البقاء.
-فالطالب المتفوق ليس ذاك الذي يمتلك القدرة على مذاكرة كل دروسه كلمة، كلمة، بل ذلك القادر على التركيز على المهم، والضليع في إسقاط ما لا طائل منه.
وكنت في مرحلة سابقة أقارن بين المعرفة الرأسية ونظيرتها الأفقية، فكنت أجدني منساقة بسبب دراستي العلمية الأولى (الإعلام) والتي كانت تقودني لاتجاه المعرفة الأفقية، إلا انني بعد ذلك ملت للتعمق المعرفي من خلال معرفة رأسية لفرع واحد من العلوم (التخصص).
على أنني أعترف بأنه قد تبين لي أن النجاح في تحصيل معرفة أفقية أو رأسية رهين بتطبيق نظرية المعرفة بالسالب لا بالزائد.
- ولن أنسى أهم وصايا مشرفتي البريطانية بالجامعة:
ستجدون يومياً ببريدكم عشرات الرسائل التي ستغريكم بفتحها، فالانتقاء واجب.
وستدخلون المكتبة فتفاجئون بآلاف الكتب، فالاختيار مهم.
وستقابلون في ردهات الجامعة عشرات الطلاب محملين بقصصهم واستغلالهم الصريح والمبطن، فالتجاهل ضروري.
كما ستجدون في ورقة الامتحان أكثر من سؤال، فامنحوا الأولوية لمن له نقاط أكبر، والنجاح منوط بقدرتكم على التمييز بين الهام والأقل أهمية والهامشي، مع تقدير الوقت وتحديد ما يجب استبعاده كما والالتفات للأولى.. والنابغة هو من لا يحتار حين يختار.
copy short url   نسخ
27/03/2021
1294