+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
تمتلئ صفحات العالم الأزرق هذه الأيام بصور أمهاتنا الجميلات، الراحلات منهن، واللواتي مازلن على قيد الحياة، الشابات والكهلات والمتقدمات في السن، القريبات من أولادهن والبعيدات عنهم، تمتلئ صفحات هذا العالم أيضا بصور أمهات شهداء سوريا، الحزينات الصابرات، اللواتي يضعن الملح على جراح قلوبهن وهن في طريقهن الافتراضي نحو مقابر تضم أجساد فلذات أكبادهن، الذين رحلوا قبل أن تمتلئ عيون أمهاتهم من اكتمال قاماتهم، قبل أن تنهي أمهاتهم تلك الجملة السورية المدهشة: (تقبر عضامي يا ابني)، تلك الجملة التي حولتها الحرب والجرائم التي مورست ضد السوريين خلال السنوات العشر الماضية إلى ندب أمومي يقطع القلب: (آخ يا ابني بدل ما انت تقبر عضامي أنا عم حط التراب بإيدي فوق قبرك، آخ يا ابني كسرت ضهري)، ويتوالى الندب الأمومي السوري، إذ لم تكتف الحرب بابن واحد، بل أخذت معها الأبناء كلهم، من صار تحت التراب، ومن اختفى في معتقل مظلم لا يخرج منه أحد، ومنهم من ابتلعه البحر وهو يحاول النجاة كي يخفف من دمع أمه، ومن هرب ونجا من عساكر وشرطة الحدود ووصل إلى بر الأمان، يرى دموع أمه من خلف جهاز بارد ويسمع دعاءها وهي تستعطف الله أن يحمي من تبقى من فلذات أكبادها.
تمتلئ صفحات العالم الأزرق السوري هذه الأيام بصور الأمهات المعتقلات، المغيبات في السجون، والأمهات اللواتي يعشن مع أولادهن في مخيمات العار والذل، يحاولن حماية أبنائهن من البرد والمطر والحر والجوع والفاقة والعوز والقهر، يحاولن أن يكن الأب الغائب، الأب الذي ندهته نداهة الحرب والقتل والموت فذهب معها ولم يعد، وأن يكن المعلم في غياب المدرسة، وأن يكن البلسم في غياب الطبيب، وأن يكن الأمان في غياب الوطن، وأن يكن كل شيء لأولادهن، وهن اللواتي فقدن كل شيء، فقدن حتى الشكوى، ليس بين أيديهن سوى الدعاء لرب العالمين أن ينهي هذا الاختبار الطويل، ويعيد لحياتهن القليل القليل من فرح سرقته الحرب والموت والتشرد والخوف والقهر المديد.
(بأية حال عدت)، كل عام في يوم الأم، نقول هذه الجملة ونحن نتطلع إلى العام القادم، بأمل خفي، أن يعود بحال أفضل على السوريين، في كل عام مع أول الربيع نأمل أن تحمل قيامة الطبيعة معها قيامة سوريا من خريفها الدموي الحزين، نأمل أن يجد السوريون، كل السوريين، أن تضحياتهم وأرواح أبنائهم دفعت لأجل هدف كبير، لا لأجل أن تكون سوريا والسوريون على ما هم عليه الآن.
ولأن المناسبة هي يوم الأم، يخطر لي أن أتساءل مرات كثيرة، عن حال أمهات المجرمين وزوجاتهم (اللواتي هن أيضا أمهات)، هل هن أمهات مثاليات مع أبنائهن؟! ماهو شكل العاطفة التي يحملنها لأبنائهن وهن يعرفن أنهم قتلة ومجرمون! هل الأمهات هن من ربين أولادهن على الإجرام؟! كيف يصبح الولد مجرما حين يكبر ولماذا؟ أول تمييز يميزه الوليد هو ثدي أمه، دافعه لذلك الجوع وغريزة البقاء، وأول إدراك يدركه الوليد هو صوت أمه ووجهها، وأول معرفة للطفل هي معرفة اللغة التي تنطق بها أمه وهي تحمله، أول وعي الطفل يأتي عن طريق أمه، هي من تبدأ بتلقينه مبادئ الحياة، ليأتي دور الأب لاحقا، ثم الأسرة كلها والمجتمع فيما بعد، أتساءل عن التربية التي يتلقاها المجرمون حين يكونون أطفالا، ولا أتحدث هنا عن القتل الذي يمارسه الموجودون في المعارك والحروب، إذ هنا غريزة البقاء تطغى على الوعي، فهم إما قتلة أو مقتولون، هذه المعادلة منذ أول التاريخ وفي كل الحروب وستبقى إلى الأبد، أحكي عن من يصدر أمر القتل، عن من يمارس القتل والتعذيب بيده وهو ليس في وجه الخطر، أحكي عمن يتلذذ ويتفنن بتعذيب الآخرين وينتشي بقتلهم كما لو أنه حقق انتصارا كبيرا، هؤلاء أبناء أمهات، مثل ضحاياهم، كيف هو شكل أمهاتهم؟! كيف هي نفوس تلك الأمهات؟! هل يبكين أبناءهن أيضا ويتشحن بالسواد وهن يضعن الزهور على قبورهن فيما لو مات أحدهم؟! هل شعور الأمومة متساو لدى جميع الأمهات ومتشابه مهما كان وضع الأبناء؟! أفكر هنا أن العدالة أمر مربك جدا، إذ أين العدالة في أن تعامل الأمهات جميعا كما لو كن كينونة واحدة، بينما أنجبن للعالم مجرمين وضحايا؟!
copy short url   نسخ
23/03/2021
1725