+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
ذات يوم من عدة سنوات وضعت على صفحتي على الفيسبوك لوحة لفنان هولندي يدعى «معلم رسم بورتريهات النساء النصفية» وهو اسم من مجموعة أسماء متشابهة اختارها بعض الفنانين الهولنديين لتعرف بنوعية رسوماتهم بدل أسمائهم، فأحدهم مثلا اختار اسم «معلم رسم الطيور» وآخر «معلم رسم الطبيعة»، إلى ما هنالك، كان هؤلاء الفنانون جزءا من ورشة جماعية تعمل تحت رعاية مارغريت، الأميرة النمساوية التي أصبحت حاكمة هولندا، والتي أصبحت بعد تخطي مرحلة شبابها ممتلئة القوام وذات وجه بيضوي، «معلم رسم بورتريهات النساء/ كانت معظم نساء لوحاته تتصف بالوجه البيضوي والقوام الممتلئ، وهو على ما يبدو كان مقياسا من مقاييس جمال تلك المرحلة التاريخية»؛ حين وضعت اللوحة على صفحتي أرفقت بها، مازحة، الكلام التالي: «كان يجب أن أولد في العصور الوسطى، حيث كان ثمة من سيقدر قيمة جمالي»، إذ لطالما كنت من ذوات القوام الممتلئ والوزن الزائد رغم محاولاتي الفاشلة المستمرة للحصول على وزن أقل وقوام رشيق، يبدو الأمر كما لو أنني سوف أبقى هكذا، لاشيء سيغيرني مهما حاولت، لهذا كان يجب أن أغير خطتي وأشتغل على قبول شكلي ووزني الزائد بدل تلك المحاولات الفاشلة باستبدالي بأخرى.
أتذكر أنني لاحقا بدأت أبحث عن رسومات ذلك الفنان، وعن لوحات لنساء العصور الوسطى وعصر النهضة، وأنشرها على صفحتي، ليس فقط لقيمتها الفنية العالية، بل محاولة مني لاكتشاف جمال النساء ذوات القوام الممتلئ، لأعرف كيف أحب جسدي أخيرا، ولإثبات أن معايير الجمال ليست ثابتة وليست واحدة. كنت أريد إقناع نفسي بهذا قبل إقناع الآخرين، إذ ليس من السهل على المرأة الممتلئة أن تقنع نفسها أنها جميلة في الوقت الذي تشتغل فيه الميديا بكل وسائلها على ترويج صورة المرأة النحيلة بوصفها هي الأجمل، وعلى ترويج منتجات تصنع يوميا للتنحيف والتخلص من الوزن الزائد، وعلى بث الإعلانات عن عيادات التجميل التي تنحت القوام وتجعله مثاليا، حسب مواصفات السوق، وعلى إظهار صور النجمات والممثلات وعارضات الأزياء بأحدث إطلالاتهن، ثم يتم طرحهن على وسائل الميديا ليكرسن مفهوما واحدا للجمال الأنثوي، بحيث يصبح هاجس كل الفتيات والنساء أن يصبحن مثاليات القوام والوجه، هكذا، تزداد أرباح الشركات المنتجة لأدوية التنحيف وإنقاص الوزن، والشركات المصنعة لأجهزة التنحيف ونحت القوام، وطبعا أرباح أطباء التجميل، وهو الاختصاص الطبي الذي أصبح أكثر رواجا وانتشارا في العقود الأخيرة.
إنه زمن الاستهلاك في كل شيء، حتى في أشكال النساء، زمن التسليع، تستخدم فيه المرأة لترويج منتجات الشركات وأصحاب رؤوس الأموال، هذا ليس كلاما جديدا حتما عليكم، يحدث منذ زمن، وكتبت عنه أبحاث عديدة ضمن ما كتب في نقد الرأسمالية العالمية، لكن هل غيرت تلك الأبحاث أو تكرار هذا الكلام من الأمر شيئا؟! للأسف، يبدو الأمر كما لو أنه يتفاقم أكثر، خصوصا في بلادنا العربية، التي تأخذ من رأسمالية الغرب حالتها الاستهلاكية وسلبياتها دون أن تقترب من الإيجابيات المتمثلة في الضمان الاجتماعي والطبي وحقوق الإنسان وغيرها. لدي صديقة مثقفة وكاتبة وزوجة مثقف كبير، سؤالها الأول لدى حديثها معي على الهاتف بين الفينة والأخرى: (سمنانة ولا نحفانة)؟! سابقا كنت أشكي لها مباشرة من عدم تمكني من إنزال وزني، لكنني منذ مدة لم أعد أطيق هذا السؤال وقلت لها هذا بوضوح، إذ فجأة شعرت أنني أقاد دون أن أنتبه إلى نفس الزاوية التي أنتقدها، أن يصبح شكلي هو شغلي الشاغل؛ أنا كاتبة، ولدي مشاكلي الشخصية كامرأة خمسينية تعيش وحيدة خارج بلدها الممنوعة من العودة إليه وتعافت من أمراض خطيرة كادت تودي بها، ومنشغلة بالشأن العام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي لبلدي المدمر، ومتابعة للانهيار الكبير للحضارة البشرية نتيجة الصراعات والحروب وتجارة السلاح ودعم الأنظمة الديكتاتورية في العالم، أنا شاعرة مهمومة بمشروعي الشعري الذي لم يكتمل رغم تجاوزي منتصف الخمسين، مع كل ذلك أراني أتحسر على حالي كلما شاهدت صور النساء النحيلات الطويلات المثاليات على وسائل الميديا المختلفة، فما هو حال الفتيات الشابات المحاطات بكل هذا الجنون الاستهلاكي؟!
copy short url   نسخ
23/02/2021
1608