+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
تكتب إحدى السيدات السوريات، بلهجتها السورية الدارجة، على صفحتها على الفيسبوك التالي:
«بدي أرجع على الشام، هاد مو نق، هاد قرار عم فكر فيه من فترة، طاقتي خلصت، برجع يا بعتقل وبموت بالمعتقل يا بتحمل الاعتقال متل غيري وبطلع، ما عاد أتحمل طلع في شي أبشع من النظام».
السيدة المقصودة ناشطة حقوقية معروفة، وزوجها أحد أشهر المعتقلين السوريين والناشطين المدنيين، (فلسطيني سوري)، اعتقل مبكرا ثم لاحقا أعلن النظام عن تنفيذ حكم الإعدام به بتهمة الإرهاب، دون أن يسلم جثته لذويه أو لزوجته، جثته مختفيه مثل آلاف جثث السوريين الذين قتلوا تحت التعذيب، أو أعدموا في السجون والمعتقلات.
منشور السيدة السورية جاء صبيحة (يوم الفالنتاين) أو يوم الحب، كما اصطلح العرب على تسميته، وهي مفارقة مخيفة جدا، إذ أن حكاية السيدة مع زوجها الشهيد مشهورة، فهما كانا مخطوبين قبل اعتقاله، وبعد الاعتقال ونقله من فرع الأمن الجوي إلى سجن عدرا الشهير، أصرت هي على الزواج به وهو في السجن، وفعلا تمت إجراءات الزواج بحضور والدها ووالده، ومحامٍ شرعي ليعقد القران، وطبعا بحضور مدير السجن وبعض العناصر العسكرية والأمنية، حكاية تذكر بأحداث الأفلام العربية والروايات، ونادرا ما تحدث في الواقع، لكنها حدثت فعلا، بكل قوتها وغرابتها ورومانسيتها، لم يتح للزوجين طبعا أن يختليا، فتلك منحة لا يحلم بها معتقلو النظام السوري، نقشت السيدة السورية المحامية اسم زوجها وشما على ظهرها بعد الزواج، يراه كل من يعرف السيدة المقصودة، أما هو فقد أعدم لاحقا بكل وحشية، رغم كل محاولات زوجته إيصال قضيته وقضية المعتقلين السوريين إلى دوائر وأروقة النظام العالمي ومحاكمه الدولية ومباني أممه المتحدة ومجلس الأمن، ولكن طبعا دون جدوى.
أفكر وأنا أقرأ منشور السيدة السورية في الصباح الباكر ليوم الحب، حيث صفحات الفيسبوك تمتلئ بالتهاني، التي يتبادلها المحبون، وتمتلئ بالورود والدببة الحمراء، كدلالة على رومانسية هذا اليوم، خصوصا وأن الفيسبوك صار هو البديل الوحيد في العالم كله، لتبادل التهاني والهدايا الافتراضية بسبب جائحة كورونا التي فرضت التباعد الاجتماعي حتى على العشاق، بعد أن كانت هذه الخاصية لسنوات طويلة، تميز حال السوريين إثر تغريبتهم المهولة، أفكر بحالتها النفسية التي دعتها لكتابة هذا المنشور الصباحي، بكم الوحشة والوحدة التي تشعر بهما حيث هي، بشوقها إلى زوج لم تستطع ضمه إلى صدرها حتى في ساعة زواجهما، ولا تعرف لجثته مكانا تزوره وتبثه أشواقها، أخمن أنها تتخيل جثته، مجهولة المكان، في الأثير تحوم حولها وتكلمها وتبثها مكابداتها، إذ تحول الفيسبوك السوري إلى هذا الأثير فعلا، لم يعد افتراضا ما يراه آخرون يعيشون حياة طبيعية، بالنسبة لنا نحن السوريين صار المكان والفراغ في الوقت نفسه، لكم أن تتخيلوا مئات آلاف السوريين لا يستطيعون الوصول إلى أحبائهم في يوم كهذا، وليس بسبب الجائحة، بل لأنهم سوريون فقط، لأنهم يحملون هذا الوشم، (سورية)، المشابه لوشم اسم الشهيد على ظهر زوجته، تحولت سوريا إلى وشم على ظهور أبنائها، إلى حدبة ربما، لا يمكن التخلص منها ولا نسيانها، ويضغط ثقلها على أعناقنا فيحنيها، لنبقى دائما كما لو أننا: (المحنيون في الأرض) من فرط القهر والألم والحنين.
أفكر بقهر السيدة السورية وألمها وهي تكتب ما كتبت على صفحتها، وأفكر بقرارها في العودة إلى سوريا، القرار الذي نادرا ما وجد سوري خارج سوريا لم يفكر به مرات كثيرة، وأخص هنا من يحملون الهم السوري كما تحمل السلحفاة بيتها فوق ظهرها، من يعتقدون أن الحل السوري يبدأ بعودة جميع من أجبر على الخروج من سوريا، من يؤمنون أن التغيير لا يأتي من الخارج، وإنما من تكاتف السوريين داخل سوريا وإعادة تلاحمهم لخلق حياة أفضل، ربما هذا أيضا حل يشبه حلول الأفلام والروايات، كقصة زواج السيدة السورية تلك، ولكن من قال إن الأفلام وحكاياتها ليست صورة عن واقع ما، أو عن واقع متخيل، وهل ثمة حدث مهم في التاريخ البشري لم يسبقه خيال ما وضع خطوطه الأولى؟
أفكر بكل هذا وأنا أقرأ منشور السيدة السورية صبيحة الفالنتاين أو يوم الحب، وأنا وحيدة مثلها، ومثلنا مئات آلاف السوريات، خارج سوريا وداخلها، نحلق في الأثير متكئين على خيالاتنا وعلى ذبذبات أحبائنا في هذا الأثير الغريب، ليعيدني إلى الواقع تعليق غريب كتبه سوري ما على منشور السيدة: (انتحري ولا ترجعي، الانتحار أكتر شرفا من الرجعة)..!
يا للهول! ماهذا الوطن البالغ القسوة الذي يجعل أبناءه ينتحرون من شوقهم إليه ومن خشيتهم من العودة إليه في ذات الوقت؟! كيف يصبح الوطن جلادا بلا رحمة، في سجن يساق نزلاؤه إلى الإعدام بهذه الطريقة القاسية؟!
copy short url   نسخ
16/02/2021
1145