+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
«صرفوا عليه تلات أربع رصاصات.. كتر خيرهم»..
بهذه الكلمات ختمت السيدة سلمى مرشاق حديثها إثر اغتيال ابنها المثقف والمخرج والناشط السياسي اللبناني لقمان سليم قبل أيام قليلة في منطقة من مناطق الجنوب اللبناني، حيث اختفى لعدة ساعات ليعثر على جثته متروكة في سيارته ومصابة بأربع رصاصات، لا يمكن وصفها سوى بالجبانة والقذرة، إذ لا شيء أكثر جبنا وقذارة من عملية الاغتيال السياسي، التي تحدث غالبا بسبب الاختلاف بالتوجه السياسي أو بالآراء، والتي يرتكبها (مجهولون)، يعتقدون أنهم يملكون أحقية قتل من يختلفون معه لمجرد امتلاكهم السلاح أو السلطة، وغالبا، ما تصنف هذه الاغتيالات، في العالم، ضد مجهول، رغم أن مصدر أمر القتل يكون معروفا وصريحا، ولديه سوابق عديدة مشابهة، لكنه يدرك تماما أن التوازنات السياسية في أي بلد من البلدان التي تشهد جرائم من هذا النوع، سوف تجعل من جريمته الجديدة تقيد ضد مجهول أيضا، ولبنان أحد أشهر الدول التي اعتادت على هذا النوع من الاغتيالات السياسية، هناك تاريخ حافل بالاغتيالات، وطابور طويل من شهداء هذا النوع من القتل، سواء بالرصاص الموجه مباشرة، أو بالتفجيرات الكبيرة التي أودت بحياة الكثير من مثففي وصحفيي وسياسيي هذا البلد المنكوب بحروب أهلية وبطائفية سياسية وميليشيات مسلحة وزعماء يرتبطون بأجندات دول مختلفة، تجعل جرائم الاغتيال السياسي تضيع وسط الخلافات والتوازنات، بحيث يصبح الجميع متهما والجميع بريئا، بينما يضيع حق الضحايا في حفلة تبويس اللحى اللاحقة.
فإذا ما عدنا إلى تاريخ الاغتيالات السياسية في لبنان وجدنا أنها بدأت منذ بدايات القرن الماضي، مع فؤاد جنبلاط والد الشهيد كمال جنبلاط، ولم تنته حتى الآن، وطالت زعماء ومثففين من كل الطوائف اللبنانية، واللافت أنه ما من جريمة واحدة تم تحديد هوية مرتكبها، أو تم تحقيق العدالة ضد جهة ما، دائما هناك هذا التمييع المريع للجرائم، حيث يتم التضمين بمسؤولية هذه الجهة أو تلك، دون توجيه الاتهام المباشر لها، دائما ما كان يحصل هذا، ويبدو أنه نهج مستمر حتى الآن، وهو ما ظهر واضحا في حديث السيدة سلمى مرشاق والدة لقمان سليم، التي تعرف، مع غيرها، الجهة التي أصدرت أمر قتل ولدها ومع ذلك لم تسمها بشكل مباشر وصريح.
على أن ثمة ما يترافق مع عمليات الاغتيال السياسي، لا يقل جبنا وقذارة عنه، هو الاغتيال المعنوي لشخصية القتيل بعد تصفيته، والذي يبرر عملية الاغتيال، إذ قرأت بعد اغتيال الناشط لقمان سليم عددا كبيرا من المنشورات على صفحات السوشيال ميديا تدين عمليات الاغتيال السياسي بالمطلق إلا أن هذه الإدانة (العامة) ألحق بها مفردة: (ولكن)، وبعد هذه المفردة هناك ما لا يحصى من الاتهامات، التي ليس لها سوى مصدر واحد ووحيد، لشخصية الراحل، ومن يتمعن في تلك الاتهامات سوف يكتشف أن من يسوقها في حضرة الموت هو موافق ضمني على عملية القتل، مهما ادعى غير ذلك، خصوصا في بلاد تربى الوعي الجمعي فيها على توجيه تهمة (الخيانة للوطن) لكل من يخالفنا بالرأي السياسي، والجملة من الخيانة في بلادنا توجه لكل من يعترض على سلوك أو سياق سلطوي أوحزبي أو أيديولوجي في بلادنا، أترك لكم تذكر الأعداد الهائلة من (الخونة) في بلادنا العربية، والذين تمت تصفيتهم تحت هذا البند، ولكم أيضا في سوريا خلال السنوات السابقة خير مثال على ذلك، إذ صنف كل من وقف ضد النظام وحلفائه بالخائن وعدو الوطن، وبالتالي استحق الملايين من السوريبن ما حصل لهم من تنكيل وتشريد وتهجير وقتل واعتقال وتعذيب، بسبب (خيانتهم)، حسب ما يرى (الوطنيون)، من أنصار النظام وحلفائه.
هل تختلف الاتهامات التي ساقها خصوم لقمان سليم في الفكر والسياسة، عن تلك التي يسوقها أعداء الثورة السورية؟!
يمكن القول بكل ثقة إنها نفس الاتهامات، وبكل ثقة أيضا أصحابها (خصوم لقمان)، لا يعترضون على المصير الذي لاقاه لقمان، مثلما لا يعترض أعداء الثورة السورية على مصير مؤيديها، أما إدانة الاغتيال السياسي الذي ساقه خصوم الراحل في البداية فليس سوى لذر الرماد في العيون، أو ربما لتبرير اتهامات خصومهم الذين لم يدينوا جرائم اغتيال سابقة، بيد أن الحقيقة هي أن فاشيتهم مكشوفة مجرد ما أن أرفقت الإدانة بمفردة (ولكن).
من أسوأ ما يحدث أن يتحول الموت والاغتيال السياسي إلى بازار للمزايدات حول الوطنية، ليس هذا سوى مظهر شديد الوضوح على الانحدار الذي وصل إليه الفكر السياسي العربي، بشقيه اليساري واليميني، وعلى الفشل المريع الذي وصل إلى حد الكارثة في أداء الأحزاب السياسية العربية أيضا بشقيها اليساري واليميني، وبأداء أنصار هذه الأحزاب وفاشيتها، وعدم اكتراثها بأي حق من حقوق الإنسان الطبيعية، وتمثلها للسلطة وادعائها بامتلاك الحقيقة والوطنية، وبالتالي افتراض أحقيتها بمعاقبة كل من يختلف معها بالرأي بأية وسيلة تراها مناسبة، بما في ذلك القتل، التعبير الأوضح عن فشل أدائها الفكري.
copy short url   نسخ
09/02/2021
2026