+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
كثيرا ما توجه لي في الحوارات الصحفية أسئلة تتعلق بالكتابة والمنفى، عن تأثير المنفى على مخيلتي الشعرية، وعلى مواضيع الشعر التي أختارها، وعلى حياتي الشخصية، وحين أفكر بالإجابة المناسبة، أكتشف التالي: أنا لا أشعر على الإطلاق أنني أعيش في منفى، وما يراه البعض من أثره في كتاباتي، هو مجرد اقتراحات أقدمها لنفسي أثناء الكتابة، إذ أن في الشعر ثمة حالة من التقمص تشبه حالة تقمص مهنة التمثيل مثلا، قد أكتب يوما عن العزلة وأنا واقعيا لست معزولة، غير أن حياتنا المعاصرة فرضت نمطا معينا من الحياة خصوصا على النساء اللواتي في منتصف أعمارهن وما فوق، حيث تعيش الغالبية من هذه الفئة وحيدات لأسباب عديدة، أنا إحدى هاته النسوة، يمكنني تقمص إحساس العزلة وصاحباتها بسهولة والكتابة عن ذلك، حتى لو كنت أتمتع بحياة اجتماعية عادية وبصداقات مقربة، لكن عزلتي النفسية وتأثير ما حصل في سوريا عليّ، وتفرق عائلتي وأصدقائي في جهات الأرض المختلفة سوف يظهر في كتاباتي حتما، إذ أن الشعر بقدر ما هو فعل وعي كامل بقدر ما هو تفريغ للعقل الباطن الذي يختزن آثار الأسى والحزن والألم والقسوة التي صادفناها في حياتنا.
يفترض البعض أن مجرد البعد عن الوطن هو منفى، وقد يكون هذا الافتراض واقعيا إلى حدٍّ ما، أو في الأصح كن واقعيا جدا وحقيقيا ما قبل توافر وسائل الاتصال، حين كانت وسيلة الاتصال الوحيدة هي الهاتف الأرضي (المكلف جدا)، أو الرسائل المكتوبة التي كانت تحتاج وقتا طويلا لتصل إلى المرسل إليه، حين كانت الأخبار الشخصية تصل متأخرة جدا لمن يهمهم الأمر، حين كان المهاجر أو المنفي لا يعرف شيئا عن عائلته سوى بعض الصور المرسلة كل سنة مرة أو أكثر، وبعض الأخبار المكتوبة في رسالة ورقية قد لا تصل إذا ما اضطر إلى تغيير عنوانه، حسنا، هذا كله لم يعد موجودا الآن، (وإن كان من عاش تلك المرحلة يتمنى عودتها لما كان فيها من رومانسية وشوق وعاطفة لم تعد تملك ذات اللهفة هذه الأيام)، كل شيء اليوم بات مكشوفا ومعروفا، ويمكنني أن أتابع تفاصيل حياة ابنتي البعيدة بالصوت والصورة لحظة بلحظة، يمكنني أن أراها في عملها، وفي بيتها، حين تتألم أنا معها وحين تفرح أنا معها، من وراء شاشة صماء بالتأكيد ولا أستطيع لمسها واحتضانها (مع كوفيد بات الحضن حتى لمن يعيشون معا أمرا غير مستحب)، لكن هذه الشاشة الباردة خففت الكثير من الحنين والشوق، وجعلت من فكرة المنفى فكرة شعرية أو فانتازيا أكثر مما هي حقيقية وواقعا ملموسا. وهو ما لا يستطيع احد نكرانه أو ادعاء عكسه.
لماذا يصر البعض إذا على أسئلة المنفى رغم كل التسهيلات التي تقدمها وسائل التواصل الحديثة لحياة البشر؟! في ظني أن من يعيشون في مجتمعات ذات لغة مختلفة ربما يشعرون فعلا بهذا المنفى، حتى لو اقتصرت حياتهم على أصدقاء يتكلمون نفس لغتهم الأصلية، لكن هذا السياق بحد ذاته يحمل معنى مؤكدا للمنفى، أن تعيش وسط مجتمع وحياتك به مقتصرة على فئة قليلة جدا قد لا يربطك بها سوى شيء واحد هو اللغة (الأصدقاء المطاعم البقالة الخ)، أن ترى نفسك عاجزا عن الاندماج في المجتمع الذي تعيش فيه، أن تعجز عن بناء علاقة صداقة حقيقية مع أحد من ابناء المجتمع الجديد الذي تعيش فيه لأنكما ببساطة عاجزان عن التواصل الحقيقي بسبب فرق اللغة وجهل كل منكما بلغة الآخر، الصداقة والحب لا يكتملان بلغة وسيطة إلا إذا كان الطرفان متمكنين جدا من تلك اللغة الوسيطة، وحتى في حالة التمكن سوف يوجد ما ينقص لإتمام هذه العلاقة بالشكل الحقيقي، إذ قد أتحدث الانجليزية بطلاقة وكذلك صديقتي الألمانية، لكن كلا منا يفكر بعواطفه ومشاعره بلغته الأصلية، أنا بالعربية وهي بالألمانية، فاللغة ليست فقط مفردات وجملا متبادلة، هي ذاكرة طويلة بنيت على تاريخ متراكم من المشاعر والعواطف والاختبارات والعادات والمتغيرات والحضارات.
اللغة هي المنفى الوحيد حاليا على ما أرى، لهذا أستغرب الأسئلة التي توجه لي حول الشعر والمنفى حاليا، فصحيح أنني أعيش خارج المحيط الجغرافي الذي نشأت فيه، لكنني أعيش في مكان يستخدم لغتي نفسها، في كل تفاصيل الحياة، بحيث تصبح اللغة هنا هي الوطن لي بقدر ماهي المنفى لآخرين يعيشون في مكان آخر.
copy short url   نسخ
22/12/2020
1750