+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
يتحدث فيلم (ماغنوليا)، الذي يعرض حاليا على شبكة نتفلكس العالمية، عن عدة أشخاص لا يجمع بينهم شيء سوى محاولاتهم الحثيثة لنيل السعادة التي يستحقونها، كل من وجهة نظره، وحسب إمكانياته، وبطريقته الخاصة، السعادة التي فقدوها منذ زمن طويل، والحياة المستقرة الطبيعية الهادئة، التي يعيشها جميع البشر، أو يفترض أن يعيشها جميع البشر، فيلم (ماغنوليا) صدر عام 1999، من سيناريو وإخراج وإنتاج (بول توماس أندرسون)، وبطولة مشتركة لمجموعة كبيرة من نجوم هوليوود، والفيلم تحصل على ثلاث جوائز أوسكار عام 2000، مما جعله واحدا من أهم إنتاجات هوليوود، خصوصا وأن مدة عرضه تتجاوز الثلاث ساعات، بأحداث متلاحقة ومشوقة، مما ينسي المشاهد أن الشخصيات لا يجمع بينها أي رابط فعلي سوى الصدف غير المفهومة، وأن الأحداث تدور في الحاضر مع منولوجات عن الماضي في انتقالات بصرية مدهشة تنسي المشاهد حيرته وأسئلته حول أي المشاهد أين الماضي وأين الحاضر، وكم تحمل شخصيات الحاضر من الماضي حتى لو لم يكن يخصها.
بيد أن ما يهمني في الفيلم للحديث عنه هو الرابط بين الشخصيات، جميع شخصيات الفيلم تعاني من عقدة الأب، الشخصيات النسائية منها والأخرى الذكورية، هناك آباء ارتكبوا في حق أبنائهم وبناتهم الكثير من التعسف والظلم، فالمذيع التلفزيوني الشهير حاول الاعتداء الجنسي على ابنته في طفولتها، الأمر الذي جعلها تترك منزل العائلة منذ أول شبابها دون أن تخبر أحدا عن سبب قرارها، وتعيش حياتها خائفة ووحيدة ومدمنة على المخدرات، تبحث عن الحب وتهرب منه حينما تجده، إذ أن عقلها الباطن يوحي لها أن جسدها الذي تم انتهاكه من قبل أبيها أقل نقاء من أن يلمسه أحد! والعجوز الغني المتزوج من امرأة جميلة تصغره كثيرا في السن، والذي ترك ابنه الطفل وزوجته الأولى وغاب بلا عودة، فربت الوالدة الطفل بأسوأ الظروف حتى أصيبت بالسرطان وماتت بين يدي ابنها المراهق، الذي أصبح في شبابه شابا مشهورا يقدم استعراضات بعنوان (الإغواء والتدمير) معادية للنساء ولا يحضرها سوى الرجال، بعد أن غير اسمه واخترع شخصية أخرى له، لتنكشف الحقيقة حين يكون والده العجوز على فراش الموت ويطلب رؤيته! وذلك الأب الذي يريد أن يستغل عبقرية طفله ليجمع ثروة عبر إجبار الطفل على دخول برامج تحدي المعرفة بين الصغار والكبار، ليعترض الطفل في النهاية ويتمرد على أبيه المشابه لأب آخر أجبر طفله قبل سنوات طويلة على خوض نفس المسابقات واستولى على مال ولده وتركه وحيدا ليفشل حين يكبر في حياته العملية والعاطفية ويتحول لوهلة إلى لص، لولا بقية ضمير (يمثله شرطي يشعر بالوحدة والخجل لأنه أهمل واجبه وأضاع مسدسه) يردعه عن استكمال فعلته.
ثمة مشهد مذهل قبل نهاية الفيلم، يذكر بالواقعية السحرية التي برع بها كتاب أميركا الجنوبية: فجأة تسقط من السماء ضفادع كبيرة ترعب الجميع، وتبدو كما لو أنها إنذار ما بضرورة الانتباه إلى ما يجب أن تكون عليه الحياة! وهو، حسب اعتقادي، ما أراد بول توماس أندرسون الإشارة له في الفيلم، سقطت الضفادع على رؤوس الجميع، كما لو أن كل ما ارتكبه الآباء من آثام وأخطاء بحق أبنائهم قد سقط، وأن ثمة مسافة ومساحة للغفران والتسامح، التسامح الذي لا يمكن ونحن نخفي خلف الابتسام ألما كبيرا، يتحمل مسؤولية جزء كبير منه الجيل السابق، جيل آبائنا، الذين بدورهم عانوا من جيل آبائهم، وهكذا، يبدو صراع الأجيال في الفيلم، ومسؤولية الآباء، هو السبب الرئيسي خلف السلوك البشري. الماضي يمضي لكن تأثيره يعيش معنا حتى النهاية، وعلينا أن نتعايش معه، عبر التجاهل أو التناسي أو التسامح، وهو الحل الأمثل الذي يقترحه فيلم ماغنوليا، وهو فعليا الحل الأمثل لكي نتمكن من عيش حياتنا بأقل قدر من الألم والحزن والوحدة، فالتجاهل والتناسي يعني أن يبقى عقلنا الباطن محتفظا بهذا الماضي ليظهره لنا بطرق مختلفة تمنع عنا الإحساس بالأمان والطمأنينة، بينما التسامح يتطلب المواجهة أولا مع هذا الماضي، المواجهة والاعتراف وحتى الإشارة إلى مصدر الألم، وتحديده، هذه المواجهة يجب أن تحدث كي نتمكن من المسامحة، لا يستطيع الكائن البشري القطع التام مع ماضيه مهما حاول ذلك، نشأته الأولى والعلاقة مع أسرته، والديه على وجه الخصوص، هي ما يشكل شخصيته اللاحقة، أمراض المجتمعات في أغلبها هي نتيجة العلاقة السيئة بين الأهل وأطفالهم، العقد النفسية التي تركها الأجداد لدى آبائنا دون أن يواجهوها ذات يوم سوف تظهر في علاقة آبائنا وأمهاتنا بنا، نحتاج جميعا إلى كمية الضفادع التي أسقطها (بول توماس أندرسون) على شخصيات فيلمه لنتواجه مع الماضي والحاضر ونتسامح مع ما نحن عليه وفيه كي نتمكن من عيش الحياة بأقل قدر من الألم والوحدة.
copy short url   نسخ
15/12/2020
1902