+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
يؤمن السوريون أن المطبخ السوري لا مثيل له في العالم، فهو غني ومتنوع، يشبه غنى وتنوع الجغرافية السورية، فمطبخ دمشق مثلا، يختلف جدا عن المطبخ الحلبي القريب من المطبخ التركي، وكان هناك صراع دائم بين المطبخين، مايزال يظهر أحيانا في صفحات الفيسبوك على سبيل التندر والتسلية، والمطبخان لا يشبهان بحال من الأحوال مطبخ الساحل السوري، الذي يعتمد على زيت الزيتون والحشائش البرية والخضار عموما والبرغل، وهو قريب من المطبخ اللبناني، في حين يعتمد مطبخ منطقة الجزيرة والفرات على السمن العربي ولحم الخواريف الدسم، وله مواصفات قريبة جدا من مواصفات المطبخ العراقي، وكذا حال مطبخ الجنوب السوري الذي يشبه المطبخ الأردني والفلسطيني، مستمدا مواده من خيرات سهل حوران، بينما وسط يتنوع المطبخ السوري الذي استمد مواده من كل جهات سوريا متميزا بالحلويات التي لا طعم يشبهها.. تنوع الجغرافية والمناخ في سوريا أعطى للطعام السوري ومواده ما لا يوجد في كل الدول المحيطة، في تعدد أصنافه التي لا تنتهي، وتعدد مذاقه ومزج المذاقات المختلفة، ودمج هذا التنوع لإنتاج مطبخ فريد، خصوصا أن التنوع لا يشمل فقط الجغرافية والمناخ بل الأعراق أيضا، فلدينا إضافة إلى كل ما سبق: المطبخ الأرمني والمطبخ الكردي والمطبخ الشركسي والمطبخ الأرناؤوطي القادم من البانيا، إضافة طبعا إلى المطبخ الغربي بتعدده، هذا كله جعل العلاقة بين السوريين وطعامهم تشبه علاقة العشق التي لم أصادف مثلها لا لدى العرب ولا في الدول الأوروبية التي زرتها. علاقة فيها من الوله والتعلق ما يجعل من الطعام هو حالة رئيسية من حالات الأمان النفسي لدى السوري، لهذا بإمكان أفقر السوريين أن يبتكر طعاما شهيا من أبسط المواد المتوفرة، وهو ما ساعدهم كثيرا في أوقات الحصار التي مارسها النظام السوري عليهم إبان الثورة وحربه المجنونة على الشعب. في بداية استقراري في مصر، كان الأصدقاء القادمون إلى مصر من سوريا أو من الدول المجاورة لها يسألونني عما ينقصني من مواد المطبخ والأجبان والبذور والخضراوات والبهارات، وكانوا يحضرون لي زيت زيتون وزعتر وحتى أنواع من الحشائش غير المتوافرة في مصر، إذ ثمة الكثير في المطبخ السوري لم يكن المصريون يعرفون عنه شيئا! ومع ازدياد الهروب من سوريا كانت مصر واحدة من الدول العربية التي استقبلت الكثير من السوريين، والتي فتحت لهم سبل العيش دون أن يسكن سوري واحد في خيمة، هذا الاستقرار النسبي جعل السوريين يفكرون في إنشاء مشاريع صغيرة يعيشون منها مع عائلاتهم، كانت محلات البقالة والمطاعم هي أكثر المشاريع رواجا، لكلفتها القليلة أولا، وللطلب عليها من قبل السوريين الذين يعيشون في مصر ثانيا، كما تناسبت مع مدخرات الطبقة المتوسطة السورية التي قصدت مصر حاملة معها ما استطاعت حمله، وشيئا فشيئا بدأت المحلات السورية تنتشر بشكل كثيف في كل الأماكن التي يعيش فيها السوريون، مطاعم، محلات بقالة، محلات عطارة، أفران للمعجنات السورية والخبز السوري، محلات الحلويات من كل المستويات، صارت النساء السوريات يطبخن في بيوتهن ويبعن الطعام بطريقة فيها من الحرفة والنظافة والترتيب ما أدهش المصريين، الذين كان إقبالهم على هذه المحلات وعلى الطعام السوري ملفتا للنظر فعلا بترحابه وتقبله، حتى أن بعض المطاعم السورية كانت تحتاج إلى حجز مسبق نتيجة إقبال المصريين، قبل السوريين، عليها.
أحضر السوريون إلى مصر كل شيء، لا شيء يطلبه السوريون هنا إلا وسيجدونه متوافرا لدى المحلات السورية، حتى أكثر المواد خصوصية ومحلية لدى بعض البلدات السورية، تلك التي لا يعرفها باقي السوريين، حتى أن بعض السوريين زرعوا في مصر أنواعا من الأعشاب غير معروفة إلا في نطاق ضيق في سوريا، ما أدهش السوريين القادمين في زيارات إلى مصر، حيث يجدون مواد لم تعد متوافرة في سوريا وإذا وجدت فهي في غاية الندرة وارتفاع السعر، صار يحدث أن نرسل من مصر إلى سوريا مواد غذائية سورية لعائلاتنا الموجودة هناك مع الأصدقاء الذين يتمكنون من التنقل بين سوريا ومصر. هذا النجاح لم يكن في مصر وحدها، بل غالبا في كل الدول التي قصدوها، الفرق فقط هو أن مصر سهلت كثيرا افتتاح مشاريع من هذا النوع، خصوصا أن السوريين استخدموا في مشاريعهم عمالا مصريين إلى جانب السوريين، وهو ما جعل هذه المشاريع ناجحة ومستمرة وقابلة للتطور والاتساع. والمفارقة أن المحلات والمطاعم السورية يقصدها جميع السوريين: المعارضين لنظام الأسد والمؤيدين له، الهاربين من الأسد والهاربين من المعارضة المسلحة والحرب، لا أحد يتدخل في انتماء أحد، ولا أحد يسأل عن انتماء الآخر السياسي، وكأن الطعام هو اصطفاف بحد ذاته، لا متسع فيه للسياسة وتحزباتها وخلافاتها، ولا مجال فيه للطائفية، ما يهم هو الخدمة والنوعية والتعامل الحرفي، لا شيء آخر، وكأن الجميع هنا (معارضة وموالاة) متواطئون على العيش بسلام، وعلى الأكل بعيدا عن مهاترات السياسة، الجميع يريد أن يعيش فقط ولتذهب السياسة علنا إلى الجحيم، أما ما في القلوب فمتروك لرب العالمين ليعلم به فقط. أفكر أحيانا، لو أن السياسة السورية بعد الثورة تأسست بنفس الحب الذي تأسست فيه مشاريع السوريين الغذائية هل كنا وصلنا إلى هذا الدرك من الهزيمة والإسفاف في التعامل والانقسام؟! ألا يقال عن السياسة إنها مطبخ أيضا؟! لماذا فشل فيها السوريون إلى هذا الحد بينما نجحوا في مطبخ الطعام بشكل مبهر؟! هل لأن السياسة تطبخ بكراهية وحقد، بينما الطعام يحتاج إلى أن يطبخ بحب لكي ينجح؟!
copy short url   نسخ
27/10/2020
2252