+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
لم أنتم يوما إلى أية أيديولوجية حزبية أو قومية أو غيرها، إذ لطالما شعرت أن الانتماء الأيديولوجي يحدد الرؤية ويحصرها في زاوية واحدة فقط، وهذا، ما أراه الطريق السهل للتعصب والتطرف وعدم قبول الآخر، بينما في التحرر من الانتماءات تتحرر الرؤية وتتعدد زواياها، مما يتيح للعقل أن يحلل ويقارن ويمايز ويميز، ثم ينحاز لما يرى فيه الحقيقة، وإن كانت الحقائق نسبية أيضا، إلا أن الإدراك البشري الشخصي، يحتاج إلى حقائق شبه ثابتة كي تكون بمثابة الركائز الأساسية في التعامل مع الحياة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم (القيم العليا) الشخصية، التي تحافظ على الكينونة الأخلاقية، التي يفترض أنها تميز البشر عن باقي المخلوقات على كوكب الأرض.
بيد أن ثمة ثوابت، يراها البعض أيديولوجيا، لكنها في الحقيقة ليست سوى ميل وانحياز أخلاقي طبيعي للعدالة الإنسانية ضد الظلم والتجبر والتكبر والاستعلاء بفعل القوة العسكرية أو الاقتصادية أو المافياوية وغيرها، والعدالة تعني أولا: الانحياز للمظلوم ضد الظالم، وتعني أن تتم الإشارة إلى الظالم بالاسم، والمطالبة بمعقابته ضد جرائمه، إحقاقا للحق الإنساني والبشري، وبعد ذلك عليه الاعتذار عما اقترفت يداه، ليس فقط بحق شعب أو فئة أو مجموعة بشرية، بل بحق الإنسانية كلها، فمنطق القوة والتجبر هو منطق مضاد لفكرة الإنسانية، والجرائم ضد شعب ما هي جرائم إنسانية لا تختص بشعب واحد ولا يمكن ان تسقط بالتقادم والتناسي، فالتاريخ شاهد أزلي، ودائما ثمة سردية تتناقلها الأجيال تسرد ما حدث. والتاريخ يعطينا أمثلة واضحة وجلية عن ذلك، فما ارتكبته القوات النازية في الحرب العالمية الثانية ضد الشعوب لم ينسه التاريخ، ومجازر الهولوكوست والمحارق ضد اليهود، ما تزال أوروبا كلها، حتى اللحظة تدفع أثمانها، رغم الهزيمة التي ألحقت بهتلر وبالقوات النازية، ورغم الاعتذارات (المهولة) التي قدمتها ألمانيا ومعها كل أوروبا لليهود في العالم كله، إلى حد منحهم (وطنا)، لا حق لهم فيه، ليس فقط لأنه وطن شعب آخر تم تهجيره بالقوة والتهديد والقتل، وإنما لأن الأوطان، عادة، هي مكان تتفق فيه مجموعات بشرية مختلفة الانتماءات الدينية والقومية والفكرية على كتابة عقد اجتماعي ينظم حياتها ويشكل الوطن المنشود، وهو مالم يتوافر فيما يسمى (دولة إسرائيل) التي قامت بالقوة مستبدلة مجتمعا متنوعا وقديما بمجتمع لا عقد اجتماعي له سوى (الهوية الدينية)، التي لا يمكن لها أن تكون عادلة، مع من لا ينتمي إلى هويتها ذاتها، وهو ما أثبتته الأيام والتاريخ، هذا ولم نتكلم بعد عن مشروع هذه الدولة في التسيد على المنطقة، والظهور بمظهر الدولة المتقدمة العلمية الديمقراطية، بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماما، فإسرائيل ليست سوى دولة عنصرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى على بعض مواطنيها اليهود، أما ديمقراطيتها فليست سوى واحدة من الأكاذيب التي روجها العالم (المذنب) عنها، العالم الذي اتضح أنه لا يكفر فقط عن ذنب النازية تجاه اليهود، بل هو يسير مصالحه الاقتصادية وتحالفاته العسكرية عبر دعمه المطلق (لدولة إسرائيل) التي أوجدت في منطقة هي من أكثر مناطق العالم غنى، ليس فقط بثرواتها الطبيعية، بل بحضاراتها القديمة وتراثها الأثري الباقي منذ آلاف السنين.
لا بأس، لن نطلب من النظام العالمي أن يفعل مع الفلسطينيين والعرب الذين ارتكبت إسرائيل مجازر بحقهم وهجرتهم من أمكنتهم، واستعمرت مدنهم وقراهم، كما فعلت أوروبا مع اليهود، لن نطلب من هذا العالم أن يعتذر للفلسطينيين ولا أن يعاقب إسرائيل كما عاقب هتلر وجيشه، فالقيم التي قامت عليها أوروبا تلك الفترة تم نسيانها بل ومسحها من الذاكرة ربما! لن نطلب من هذا النظام العالمي الشبيه بالمافيا، والذي يعزز مصالحه عبر دعم أنظمة مستبدة ومجرمة تنفذ له ما يريد مقابل ترك حبل فسادها وإجرامها ولصوصيتها على غاربه، لن نطلب ذلك، ولن يفعل هذا النظام العالمي شيئا من هذا، نحن فقط نريد أن نسأل الأنظمة العربية التي توقع معاهدات سلام مع دولة معتدية على العرب، ويروج إعلامها لعلاقات وسلام (دافئ) مع دولة الاحتلال، في الوقت الذي لا يتورع نفس الإعلام عن التحريض على دولة شقيقة فعلا لا مجازا، ويحاصرها ويسيء لسمعتها! نريد أن نسأل هذه الأنظمة: هذا السلام (الدافئ) مع عدو تاريخي مقابل ماذا؟ هل اعتذرت إسرائيل عن مجازرها ضد العرب؟ هل أعطت الفلسطينيين بعض حقوقهم؟ هل وافقت على حل الدولتين؟ هل أوقفت عنصريتها تجاه الفلسطينين من عرب 48؟ مقابل ماذا وأنتم لستم أصلا في حالة حرب معها وتريدون استرجاع سلام وأمن شعوبكم؟!
مرة ثانية أقول إنني لا أنتمي إلى اية أيديولوجية، لا حزبية ولا قومية، ولكن بما يخص فلسطين (قضية العرب الأساسية) والسلام والتطبيع مع دولة الكيان فإنني عروبية متطرفة، طالما مازالت حقوق الفلسطينيين مهدورة، وطالما مازالت إسرائيل تستبيح أرض وسماء بلادنا بدون رادع.
copy short url   نسخ
22/09/2020
2513