+ A
A -
داليا الحديدي
كاتبة مصرية
شكرت ممرضتي عقب عملية جراحية أجريتها ثم نظرت إليها كملاك يوم أعطتني جهازًا، قالت لي وهي تعطيني إياه: كلما شعرت بألم، اضغطي على الزر ضغطة، ثم كرريها لو استمر الوجع، ولسوف يذهب عنك البأس، وكلما ضغت اكثر فرصتك في اختفاء آلامك تكثر.
لذا، كنت أنظر لطاقم التمريض بإجلال كبير، حتى جاء آخر يوم بإقامتي بالمشفى، وإذ بهم يخطرونني بأن «الزر» الذي كنت أضغط عليه كان يحقنني بجرعة «مورفين» يطلقون عليه «بان كيلير».
لم يتأثر جسدي بتلك الجرعات، فيما تأثر سلباً جسد مريضة أخرى فأدمنته، ورفعت دعوى ضد المشفى طالبت فيها بتعويضات كبيرة لزيادة كمية التخدير الذي حقنوها بها.
لذا قلما أؤيد مخدرات الألم بشتى أشكالها.
فكم أفضل الاقتراب من صديق يبوح لي بوضعي المزري ليهدي بصيرتي عما تغشاه عيني عن آخر يخدرني بكذبيبات آسنات مفادها انه لا داعي للطموح، فالعشوائيات لمتها دافئة وطوبى لحياة المعدمين، ثم أن «الكفن ليس له جيوب».
قيل لي يوما: إن الموظف الذي ينتظر راتبه الضئيل قد يكون أهدأ بالًا من صاحب المليارات، لأن الموظف لاينتظر طفرات وهذا يجعله فاقدا للطموح، ومن هنا فقد استدل القائل على ان فقدان الطموح راحة!
أتصدقون ان الفقراء يحرمون الطموح؟
كلا وربي، لا يحرمونه، بل يئدونه كما يئدون بناتهم خوفاً من المحاولات التي ستفضح عار كسهلم وفقر عزيمتهم وصفر إصرارهم.
هل تجسست يوما على حلم فقير؟
أفتحت عليه باب أمنياته؟
أشاهدت شغفه العاري ببيت مديره وسيارته؟
هل طالعت ضمير ربة منزل مهمشة تنظف زجاج النافذة فتنصدم من هئيتها الرثة، فتهرب لنوبات احلام يقظة تتخيل نفسها «دوقة ويلز» تتمنى فستان «كيت ميدلتون» وصولجانها، قصرها وحاشيتها؟
هل تنصت على صومعة ناطورك فرأيته يضع قلمًا بطرف فمه متخيلا نفسه الزعيم «تشرتشل» بغليونه، يأمر فيطاع، ويطلب فيجاب؟
هل دسست حالك بين هيامات متسول متضجع على الأرصفة تحسبه صفر التطلعات فيما يتخيل نفسه صديق ملكة جمال الكون؟ تعطيه حسنة، فيشكرك برضى يتفوق أداؤه التمثيل فيه على أداء الممثل عبد الوارث عسر حتى لتحسبنه روميًا تبريزيًا بامتياز؟
انهم لا يفتقرون للطموحات ولكن لربما نفتقد نحن البصيرة التي ترينا ضمائر المعوزين، كما أنهم لم تتح لهم فرصة الضغط على ذر يحقنهم بجرعة مورفين،فيخدرون أنفسهم برضى مخنث تستره نقصان القدرة على البحث عن الفرص ويفضحه لوتاريات اطلب واكسب معنا.
لقد قرات يوما للكاتب الكبير أمير تاج السركلمة قال: «في بعض الأحيان، يبدو الحزن سلسا، وأكثر رشاقة من الفرح».
وبالمثل قد يبدو الفقر ظاهريا سلسا اكثر من الثراء المعقد.
وقد يبدو أن حضن الفقر أرحب وادفأ من قبلة الثراء العابرة.
فالثراء قادر على التقلّب، والتملّص، والتغيّر، والتمرّد، فهو ان شئت قادر على الوفاء والخيانة معاً.
بعكس الفقر ذو الشخصية الثابتة المتحصنة بالتثاقل والتقاعس والمتسربلة بالركود والدعة والمتسترة خلف الخنوع والرضى، وحتى وفائه لم يخضع لاختبارات، فمنبعه عدم قدرته على اتيان الخيانة.
فقبلة واحدة من فعل الثراء قد تكون أصدق من حضن رحب ودافئ لفقر كسول.
هذا لأن الفقر شخصية عشرية، هلهلية ليس لها متطلبات سوى تمنى مطابقة أرقام اللوتاريا، أو التحسر بالحسد على ما لم يحصد أو ادعاء ربط الشرف والامانة بالضنك.
اما الثراء فهو إنسان اكثر سعيا، يطوف حول هدفه سبعة أشواط ولا يهدر وقته في التنقيب عن ميراثه بين رميم الأسلاف.
بعض الفقراء يعلمون أن أهم نعمة في العوز هو أنه بيئة تسمح بخلق الحاجات وتفجير التحديات التي لو تلقفها المعثر لاستخدمها كتمرينات قفز الحواجز، أو كالأثقال التي تبني العضل فيقوى الساعد القادر على كبش النجاح، ما يفسر لماذا ينجب بعض الفقراء أغنياء، ولماذا يعقب بعض الأثرياء بمعوزين.
فالفئة الأولى استغلت تحديات الحاجة، وحطمت أوثان المجتمع الدمى السابقة التصميم، اما الفئة الثانية فحصدت دون ان تعرف ماهية وأهمية الكدح المستمر لا الشكوى السرمدية.
وأنا لا أعنى التمجيد في الغني وذم الفقير، وإنما المراد هو التأسف لإقران الفقر بالصلاح والرضا.. وإقران الثراء بتجريف الشرف.
عوضا عن ذلك، نعيد الأمور لنصابها، فأقصد بالغنى هو سعي الإنسان للاكتفاء، واعني بالفقر المذموم هو وجود من يستمرئ العيش في حياة وضيعة، عوضا عن قبول عمل لا يرقى لطموحاته.
لن تصير ثريا بمجرد الشخوص للدولارات.
ولن تصير ورعا بمجرد الشخوص للأيقونات.
copy short url   نسخ
19/09/2020
3137