+ A
A -
رشا عمران
كاتبة سورية
في ستينيات القرن الماضي، ذهبت الملكة اليزابيت الثانية ملكة بريطانيا في زيارة رسمية إلى غانا، برفقة زوجها الأمير فيليب دوق أدنبرة، وبدعوة من الرئيس الغاني نكروما الذي كانت بلاده محتلة من قبل الإنجليز، ثم استقلت وتحولت إلى جزء من الكومونولث، الزيارة يذكرها التاريخ دائما، لكون الملكة اليزابيت خرجت عن البروتوكول الملكي المعتاد ورقصت إحدى الرقصات العنيفة التي استدعاها إليها الرئيس نكروما، مما جعل الحاشية الملكية المرافقة تحاول السيطرة على الأمر دون فائدة، كان نكروما يراقص الملكة وزوجته تراقص الأمير فيليب. تاريخيا، الزيارة تمت بدعوة رسمية من الرئيس نكروما في محاولة منه لإفهام بريطانيا أن بلاده تتمتع بالحرية والاستقلال، ولم تكن الرقصة إياها سوى تأكيد مضاف على ذلك.
على أن مسلسل (التاج) الذي أنتجته شركة نتفلكس ضمن ثلاثة مواسم، وشاهده الملايين حول العالم، يقترح سببا آخر للزيارة: كان نكروما قد أراد الانضمام إلى المعسكر السوفياتي، وكان قد عقد سابقا قمة إفريقية تعاهد فيها الزعماء الأفارقة على التخلي عن التحالف مع المعسكر الغربي لصالح السوفيات، ونرى في المسلسل كيف تزال صور الملكة إليزابيت لصالح صور لينين، في أوج الصراع بين المعسكرين في العالم، وسبق تلك الزيارة أن استقبلت الملكة اليزابيت الثانية في قصرها على عشاء غير رسمي، الرئيس الأميركي كينيدي وزوجته الشهيرة جاكلين، التي كانت قد سحرت العالم بجمالها، وحققت إنجازات مهمة في فرنسا لصالح أميركا وزوجها في زيارة سابقة لزيارتهما للندن، كانت أخبار سِحر جاكلين، وقدرتها كامرأة على تحقيق ما عجز عنه زوجها قد سبقت حضورهما إلى لندن، مما دعا الملكة للتعرف أكثر إلى جاكلين فاختلت بها وهي تريها القصر الملكي واستمعت إليها على طريقتها الانجليزية الخالية من العواطف والشغف الذي كان يميز جاكلين، والتي بدورها لم تتورع عن انتقاد الملكة ووصفها بالبلادة والغلظة والبرود أثناء مأدبة غداء وصلت تفاصيلها إلى القصر، وإلى آذان الملكة نفسها.
يقترح المسلسل أن زيارة غانا تمت باقتراح من الملكة إلى رئيس الوزراء البريطاني ماكملان وحكومته، التي رتبت للزيارة، لتبدو كما لو أنها دعوة رسمية، كما أن تفاصيل الزيارة تبدو مختلفة في المسلسل، إذ تُظهر الأحداث أن الملكة هي من دعت الرئيس نكروما إلى الرقصة إياها، وهي التي خرجت بإرادتها عن البروتوكول الملكي المعتاد.. صناع المسلسل أرادوا القول إن تصرف الملكة في غانا كان يحمل وجهين، الوجه السياسي العلني، والذي أرادت منه بريطانيا استعادة حليفتها إفريقيا ونجحت في ذلك فعلا بفضل الملكة، والوجه الأنثوي الخفي، والذي أرادت فيه الملكة اليزابيت الثانية أن توجه رسالة لجاكلين كينيدي أنها ليست بليدة ولا باردة، وأنها تتمتع بكل صفات الأنثى الجميلة حين تضع جانبا بروتوكولات الملكية المتوارثة منذ مئات السنين في بريطانيا، وفي رأيي، إذا ما كان الحدث في المسلسل هو الحقيقي لا ما تذكره صفحات التوثيق التاريخي، فإن الملكة اليزابيت في رقصتها تلك أرادت أن تثبت لنفسها أولا أنها أنثى بكامل إغواء الأنثى قبل أن يكون ذلك موجها لجاكي كينيدي، إذ يبدو أن المهنة أو المسؤولية تتلبس الشخص أحيانا بحيث ينسى حقيقته الأولى كإنسان يحب أن يعيش حياته بشكل طبيعي، فالملكة تعيش حياتها كملكة، حتى مع عائلتها، حتى مع زوجها، تنسى أحيانا أنها زوجة وأم، يتحكم التاج الذي يعلو رأسها بسياق حياتها كله، عليها أن تسير بشكل مستقيم كي لا يسقط التاج عن رأسها ويسقط معه تاريخ الملكية في بريطانيا، لكن حين تتاح لها فرصة لتنسى التاج فستفعلها بسهولة، خصوصا إذا ما ارتبط ذلك بمصلحة لبلادها، إنها البروبغاندا حين تجمع السياسة والأنثى معا.
دون شك إن الأعمال الدرامية التي تتحدث عن شخصيات حقيقية وعن أحداث تاريخية موثقة تحمل معها الكثير من الإضافات الدرامية والخيال الفني الذي يضفي على العمل الدرامي التشويق والإثارة، لكن تبقى نسبة الإضافات قليلة جدا ومحددة، بحيث لا يتم التلاعب بالتاريخ أو تزوير أحداثه، وفي مسلسل مثل مسلسل التاج مازالت شخصياته الحقيقية الرئيسية على قيد الحياة، وعلى رأس عملها حتى الآن، فإن الدقة التاريخية فيه لا تعني فقط الأمانة المهنية بل أيضا المسؤولية القانونية، فحتما تابعت عائلة ويندسدور والعاملون في قصر بيكنغهام والحكومة البريطانية مسلسل التاج، ولو وجدوا فيه أية إساءة للعائلة المالكة أو تزوير لتاريخ ما، لقامت قيامة الإنجليز رغم برودة طباعهم وردود أفعالهم.
copy short url   نسخ
08/09/2020
3017