+ A
A -
لم يعجب الكثير من الناشطين والمثقفين وغيرهم من اللبنانيين والسوريين، أن يقوم الرئيس الفرنسي ماكرون في بداية زيارته الثانية إلى لبنان بالذهاب إلى منزل السيدة فيروز لزيارتها والاطمئنان على صحتها، مع الأخبار المنتشرة عن تأخر وضعها الصحي بسبب التقدم في السن، (مواليد 1935)، واعتبروا زيارته تلك نوعا من السياحة في بلد يعاني ما يعانيه، خصوصا بعد تفجير المرفأ، الذي لم يودِ فقط بحياة مئات البشر، بل أودى بالاقتصاد اللبناني الذي كان أساسا على شفير الهاوية، نهائيا، وكالعادة لم تمر تلك الزيارة دون العديد من التعليقات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، (المتنفس الوحيد للعرب حاليا)، خصوصا مع البيان السابق الذي وقعه الآلاف من اللبنانيين ويطالبون به الرئيس ماكرون وفرنسا بإعادة انتدابها للبنان، فربما كان في هذا الانتداب الخلاص مما يعانيه لبنان، البلد الصغير المختلف والاستثنائي في الشرق العربي.
ولعل في تصرف ماكرون هذا، أقصد افتتاح رحلته الثانية إلى لبنان بزيارة السيدة فيروز، ما يوحي بإعلان انتداب غير معلن، أو على الأقل تصريح بوضع لبنان الفرانكوفوني تحت الوصاية الفرنسية، فزيارة فنانة عظيمة في قيمة السيدة فيروز وقامتها وتاريخها، وهي تعاني من أثر الشيخوخة هو عادة واجب رئيس الدولة ومسؤوليها، مهما كانت ظروف البلد صعبة وغير مواتية، ولكن يعرف اللبنانيون- كما نعرف نحن جميعاـ أن شيئا كهذا لن يحصل في ظل السلطة اللبنانية الحاكمة منذ اتفاق الطائف، السلطة التي أودت بكل الجمال والاستثناء اللبناني، وحولته إلى بلد يتقاسمه زعماء طوائف تتصارع ضد مصلحة لبنان، وتتفق بما بتناسب مع مصالح كل منها، بحيث يبقى لبنان وشعبه وحاضره ومستقبله رهينة التوافق والتناحر بين زعماء أحزاب ومسؤولين أزليين، كانوا في الأساس زعماء ميليشات خاضت الحرب الأهلية، أو جاؤوا لاحقا نتيجة إفرازات تلك الحرب المقيتة، والمدهش أنهم باقون إلى الآن في حكم لبنان دون أن يحاكم أحدهم على ما حصل في الحرب الأهلية.
ولكن لماذا يزور ماكرون فيروز قبل أن يزور قصر بعبدا أو أي مسؤول سياسي آخر؟! دعونا نرَ الأمر بعيدا عن السياسة قليلا، وإن كنت شخصيا أرى في الزيارة تصريحا سياسيا مباشرا موجها للمسؤولين اللبنانيين بأن لبنان الذي تراه فرنسا وتريده ليس المسؤولون الحاليون في مقدمته، بل لبنان آخر بقيم أخرى، غير قيم الفساد والسلاح والحرب والعنصرية، ورغم أن ماكرون، بسياساته الحالية في فرنسا، ليس المؤهل لقول ذلك، إلا أنه في النهاية هو ممثل لسياسة وتاريخ فرنسي،( بعد انتهاء حقبة الاستعمار) يعلي جدا من شأن القيم الكبرى كالجمال والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والفن والثقافة والقيم الوطنية الكبيرة، وهو جعل من باريس عاصمة الثقافة العالمية وعاصمة حقوق الإنسان فعلا، مثلما هي عاصمة الجمال، طبعا نعيد أن هذا قبل المتغيرات في الاقتصاد والسياسة العالمية، التي غيرت من وجه العالم وكشفت الخلل الذي تتركه سياسات الأنظمة الرأسمالية في المجتمعات، نتيجة حكم الشركات الكبرى الشبيه بحكم المافيا. يرتبط اسم لبنان باسم السيدة فيروز، هذا ما يعرفه العالم أجمع، إذ أول ما يذكر اسم لبنان تظهر فيروز كمرافق لهذا الاسم، وهو ما لم يحصل مع أي فنان آخر لا عربي ولا أجنبي، ليس لأنها فقط استثناء في تاريخ الفن والغناء، بل أيضا لأن لبنان ذو الطبيعة الجميلة لا يملك في رصيده سوى ذاكرتين: الحرب والفن والثقافة، وعلى رأس ذلك فيروز، التي رفضت أن تغادر لبنان وقت الحرب الأهلية وبقيت في منزلها تغني بما يشبه الصلاة لخلاصه، وفي هذا قيمة كبيرة جدا أضافت لرصيد فيروز الكثير، ومهما قلنا عن لبنان وجماله وحريته واستثنائه، فإن السيدة فيروز تشبه الأرزة الخالدة التي يلتف حولها كل ذلك، وربما (فيروز) هي الاسم البشري الوحيد الذي يستحق أن ينسب إليه بلد ما: ( لبنان فيروز) فهي رمز ليس فقط للفن الراقي وإنما لقيم الحب والجمال والتسامح والصفاء والنقاء والعفوية، ولكل ما هو مضاد للحرب والقتل والصراعات السياسية والاقتصادية، لماذا لا تكون رمزا لبنانيا إذا يقدره العالم أجمع؟! وأظن أن ماكرون يدرك هذا جيدا، ليس بوصفه الشاب السياسي الذي وصل إلى حكم دولة كفرنسا، ولكن بوصفه رئيسا لفرنسا العريقة التي ما زال قصر الرئاسة فيها (الإليزيه) يحتفظ بمستشارين سياسيين للرئيس يعرفون جيدا ما يبقي فرنسا حارسة لقيم الفن في العالم.
أما بخصوص المستهزئين من زيارة ماكرون لفرنسا على وسائل التواصل، فأكاد أجزم أنهم يعرفون، مثلما أعرف، أن سياسييهم باتوا في مكانة لا تستحق فقدت قيمتها، بحيث لا يستحق أحدهم أن يكون هو فاتحة زيارة ماكرون صغير السن (أصغر من أبناء جميع زعماء لبنان)، فهم موقعهم على الأرض بينما يطمح هو ليبدأ زيارته بلقاء من يتسامى فوق الخراب السياسي: الفن والجمال بوصفهما قيمتين لا تتبدلان أبدا، واللتين لا يمكن لأحد أن يتمثلهما مثل السيدة فيروز.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
01/09/2020
1682