+ A
A -
وأخيراً فُتِحتْ مكة، الرَّجُلُ الذي نزلَ يوماً وحيداً من الغار يرتجِفُ من هول الوحي صار أُمة، والذي خرجَ رفقةَ أبي بكرٍ مُهاجراً تحت جنح الظلام بعد أن قررتْ قُريش قتله هاهو اليوم يدخل مكة في وضح النهار ومن أبوابها الأربعة! وجلستْ قُريشُ بين يديه تنتظرُ القصاص، ما تُراه يَفعل بهم، هؤلاء الذين كذَّبوه في دعوتِه، وآذوه في نفسِه، الذين وضعوا على رأسه سلى الجزور وهو ساجد عند الكعبة، وحاصروه في الشِّعب، واتهموه بالكذبِ والسحرِ والجنونِ ثم توَّجُوا كل ذلك بأن جمعوا من كل قبيلةٍ رجلاً ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرَّق دمه بين القبائل! ولكنه لم يثأرْ لنفسِهِ أبداً، فلم يزِدْ على أن قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!
ويذهبُ أبو بكر إلى بيته، ويأتي بأبيه أبي قُحافة الطاعن في السِّن الذي لا تكاد تحمله قدماه ولم يكُن قد أسلمَ بعد، رغبةً أن يدعو له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيُسلم، فلما رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لأبي بكر: هلَّا تركتَ الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟!
فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحقُّ أن يمشيَ إليكَ من أن تمشيَ أنتَ إليه!
فأجلسَهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين يديه، ومسحَ على صدره، وقال له: أَسْلِمْ!
فأسلم أبو قُحافة، وبكا أبو بكر، الرجل الذي أسلم على يديه كبار الصحابة، وجاءت بعظماء الإسلام لديه أكرمَه الله بإسلامِ أبيه، والجزاءُ من جنس العمل!
وانظُرْ لأدبِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يهُن عليه أن يُؤتى بأبي قُحافة لِكِبَرِ سِنه، ويُخبرُ أنه كان على استعدادٍ أن يذهبَ هو إليه بنفسه! وكان دائماً يُشفقُ على كبار السن ويُكرمُهم، وكان يقول: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المُسلم»!
وجاءَ شيخٌ كبيرٌ في السن يُريدُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم يُوسِّعوا له ليصل إليه، فقال لهم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويُوقر كبيرنا»!
تعاملْ مع كل شيخٍ على أنه والد أو جد، ومع كل عجوزٍ على أنها والدة أو جدة، فالإنسان في آخر عمره ينظرُ في ضعفه ومرضه وعجزه ويتحسَّرُ على ما فاتَ من مجدِه وقوتِه، فيشعرُ بانكسارٍ في قلبه وإن لم يبُحْ به، ولا شيء يرحمُ هذا الانكسار سوى التَّوقير الذي يجده مِمّّن حوله! وجبرُ الخواطرِ عِبادة!
ويروي ابن كثير عن طلحة بن عُبيد الله قال: خرجَ عُمر بن الخطاب في سوادِ الليل فدخلَ بيتاً، فلمَّا أصبحتُ ذهبتُ إلى ذلك البيت، فإذا هو لعجوزٍ عمياء مُقعدة، فقلتُ لها: ما بال هذا الرجل يأتيكِ؟
فقالتْ: إنه يتعاهدني منذ زمن، فيكنسُ بيتي، ويُطعمني، ثم يذهب!
بقلم: أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
11/08/2020
3571