+ A
A -
مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل- مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
يعيش الوطن العربي أزمة أسئلة الانفجار الفكري الجديد، ثورة الشك هذه ليست مقتصرة على الوطن العربي، بل هي ممتدة في الشرق المسلم كما تأكد لي في أسئلتي البحثية، من تركيا إلى ماليزيا، كما أنها ليست ظاهرة عربية بل عالمية، وإنما هذه الأسئلة تمثل ظاهرة تحدٍ واحتكاك شرس، مع الشرق المسلم، ليس فقط لضعف تناقل الفكر الفلسفي، والرد الجدلي، وليس لكون الشرق مصنّفا في دائرة التخلف، بحسب موازين العلم الأكاديمي، وهو ميزان متطرف التحيّز، وإن كانت أزمة الفكر واقعاً معاشاً في الشرق.
وإنما البعد الآخر هو أن كليات الحداثة الغربية المادية، ومآلاتها المعاشة اليوم، تواجه مدرسة مختلفة في الفكر الإنساني للمعرفة الإسلامية، وأكثر من يجهل هذا الفارق النوعي هو المجتمع العربي ذاته، ليس لكونه يتبنى الفخر والاعتزاز، بمنظومة المرجعية الإسلامية، ولكن لكون هذا الاعتزاز لا يقوم في كثير من الحالات، على استيعاب عقلي عميق، لمدلولات النص، وليس لصراخ الوعاظ المتحمسين.
أما الجانب الثاني فإن تاريخ العرب اليوم، تعود معركته الفكرية إلى الجزيرة العربية، لكونها مركز الرسالة الأولى، ولكون الخليج العربي الإقليم النفطي الإستراتيجي، الذي ظل الغرب يستنزفه حتى اليوم، ويتلاعب به كحديقة خلفية، قبل أن يَدخل الشركاء الإقليميون معه.
وأمام فشل منظومة الخليج العربي وفتح الحسابات المجنونة لأرصدة الغرب والإقليم، وأمام تحديات ما بعد الربيع العربي ونسبة الجهل في أدوات الفكر الديني، أمام الشباب الحائر، عاش الإقليم جولة هجوم جديدة، لثنائية الإلحاد الاجتماعي وترويج المثلية، هذه الثنائية ومجمل أسئلة الشك، تقوم مواجهتها، كما هي في بقية المشرق العربي، على مدرسة وعظ أو هجوم دعوي شرس، وبعضها تفكيك علمي، لكنه محاط بكم هائل من التبكيت على الشباب والتحريض عليهم، لمجرد انفجار أسئلة الشك لديهم.
ولعل الانقسام اليوم ما بين تيارات التراث، المؤمنة بخلاص قادم، من خلال الدولة العثمانية الجديدة (حسب مفهوم بعض الشباب العربي الديني) الذي رفضه المتحدث باسم حزب العدالة مؤخراً، وبالتالي الأمل في وصول قادة الأمة السلجوقية الحديثة للنصر المبين، وضم أوطانهم إليها، كما كان يؤمل في الفكرة السلفية الجهادية والدعوية.
وبين خندق شبابي تدفعه الحداثة المادية في الغرب وارتداداتها، وهي أن الشباب في الخليج يجب أن يُسقِطوا مفهوم الإسلام الرسالي، ويتبنوا أقصى درجات التطرف، في ازدراء مجتمعاتهم، والعمل على نقض التكوين الاجتماعي لأوطانهم، من الأسرة إلى الشعب، وخلق مجموعة أفراد جندريين ليسوا نساءً ولا رجالاً، ثم تسليم منظومة الحداثة الغربية المتطرفة إعلاماً وثقافة، محددات المجتمع وإعادة تشكله من جديد.
أضحى وجود هذين التيارين مشهوداً، في كل منعطف، أمام شباب الخليج العربي، الذي يشهد ضياع ثروته وسقوط حقوقه، واقتلاع فرص مشاركته الشعبية، وبالتالي لم يبقَ لديه إلا فكرة كيف نفهم العالم الجديد في أنسنته الحديثة، وما هو موقعنا فيه، وأين الحقيقة بين هذا الازدحام المروع، بين اتجاهين شرسين.
فيبرز اليوم تيار ثالث يبحث عن هدأة البال، واستقرار النفس، ودقة تصور غير مشوشة، تتساءل عن الطريق المختلف، الذي تستدل به، عن معنى رحلة الروح في حياة الإنسان قبل الآخرة، وأن مآل الآخرة هو أيضاً ضمير أخلاقي، جعلت سنن الله الكونية فيه، لاستقرار النفس، وهو منضبط في تشريعاته، في اتجاه الحقوق والحرية والسعادة المطمئنة.
وليس لتحويل الذات، إلى عذابات التكفير، ولكن تحصيل السعادة الروحية المستقرة، والإيمان المزدوج بالإسلام والحقوق والحرية والكرامة الفردية، وهنا تحتاج مهج الشباب الاستماع إلى صوت الطريق الثالث وفهمه، فكما أنهم وجدوا في وعاظ الدين المزور، كومة من الظلمة والمرتزقة.
فإن دعاة تحويلهم لنار المادية الجندرية والإلحاد الاجتماعي ومصادمتهم، مع أهاليهم واعتبار الإسلام والأهل هم العدو، ومجتمع نتفليكس وغيرها هو كوكب الإنقاذ، فهي صورة مزورة، تتقدم لهم في برواز فاتن، ظاهره الحرية، وباطنه فيه العذاب النفسي والقطيعة الروحية، والتقدم نحو الفناء الأسود، حينها لن يكون الشاب المغترب روحياً، إلا نقطة روح مراقة أخرى لا قيمة لها، في كوكب الحداثة المادية المظلم.
copy short url   نسخ
02/08/2020
2386