+ A
A -
وأنت تدخل في سوق الحميدية الشهير في دمشق، آخذا طريقك المعتاد نحو الجامع الأموي، حيث يمكنك الجلوس في الباحة الرحبة المفتوحة على الجامع، ربما تشرب فنجان قهوتك المفضل من البائع الذي لطالما كان يقف هناك يبيع القهوة (المحوجة) بكثير من الهال والمسكة الأصلية، ويبيع زجاجات الماء المبردة في قوالب من الثلج تتجدد باستمرار كلما فتكت بها شمس دمشق الحارة صيفا والواضحة شتاء، تجلس وتحيط بك الألوان من كل مكان، حيث بائعو البروكار والحرير الدمشقي، مفارش طاولات، ستائر، مفارش أسرة، سجاد متنوع الهويات والألوان لكن يبقى اللون الأحمر هو الطاغي على السجاد المباع بالقرب من الجامع الأموي، كما لو أنه امتداد للسجاد الشهير في باحات الجامع.
سوف يلفت نظرك أيضا حين تنهض من بين رفوف الحمام والستيتيات التي تحتل الساحة بأمان منقطع النظير، محلان لبيع الأحجار الكريمة الملونة كما لوأنهما مقدمة لما سيصادفك في رحلتك العشوائية، إن كنت تقصد المكان بغرض التعرف عليه، حيث سيطالعك سوق الصاغة: أشكال وأنواع من الذهب المحلي الدمشقي والإيطالي المستورد، بصياغات كلاسيكية وعصرية، ومحلات بيع الفضة بتصميماتها الدمشقية الشهيرة المستلهمة للتصميم العثماني، حيث يمكن أن تجد الأصل في سوق الفضة في اسطنبول التركية، أو لا أحد يعرف من تأثر بالآخر، هل العثمانيون تأثروا بثقافة الصناعة الدمشقية الشهيرة أم العكس؟! الحضارات عموما هي نتاج هذا التأثر والتأثير، ما من حضارة صمدت طويلا دون تلاقحات عديدة طرأت عليها.
وأنت تقف لتتناول كأس عصير رمان دمشقي بطعمه الاستثنائي، سوف تطلب من البائع كأسا أخرى لتحملها معك في طريقك، حيث ثمة ما يشدك من كل حواسك لتمشي بثبات دون حتى أن تعرف الطريق، تلك الرائحة التي لا تشبهها أية روائح أخرى، رائحة التوابل والبهارات والزهورات الدمشقية، تلك الرائحة القوية إلى حد الإمساك بك طيلة حياتك، والفريدة إلى حد أنها تحتل حواسك في زياراتك لأسواق العطارين في باقي البلاد العربية، وحتى في تركيا التي تشتهر بتوابلها وأسواقها المشابهة، ثمة فرادة خاصة في سوق البزورية الدمشقي، مكان السوق أولا، في قلب دمشق القديمة، حيث قصر العظم والمكتبة الظاهرية والجامع الأموي، وعشرات البيوت الدمشقية ذات الأسوار العالية، التي تشعل الخيال لمعرفة ماذا يحدث خلفها، شيء ربما يذكرك بأجواء ألف ليلة وليلة، مزيج من الحكايات والغرائز والشهوات التي يقوم طقسها الأساسي على خلطات غريبة من التوابل والبهارات والزهورات كأنها كلها مأخوذة من سوق البزورية الدمشقي، حيث تختلط رائحة الفلفل الأسود الحار مع الأبيض الخفيف، لتطغى فجأة رائحة الكمون الذي يستخدمه الدمشقيون في أغلب طعامهم، مع الكزبرة الناشفة وجوزة الطيب المطحونة حديثا، مع رائحة خلطة البهارات المتنوعة الممزوجة بمقادير لا يعرفها إلا أصحاب المحلات القديمة، كما لو أنها سر من أسرار دمشق القديمة، لتأتيك وسط هذه الروائح القوية رائحة أخرى فيها حلاوة تكاد تستشعر طعمها في فمك لفرط ما تثيرة من الخيال، رائحة الزهورات الشامية الشهيرة: زر الورد البلدي الشامي مخلوط مع زهر البنفسج وزهر الليمون أو البرتقال وأوراق المليسة الخضراء، بينما يمد اليانسون السوري طرف رائحته ليسحبك إليه بهدوء متنافسا مع البابونج على من يجذبك إليه أولا، وأنت، (أنا أضمن لك ذلك)، سوف تقف مكتوف الأيدي ومسمر القدمين عاجزا عن الحركة وسط كل هذا العبق، عبق الروائح وعبق الطراز المعماري للمحلات والأبنية، وعبق الخيال الذي سوف يأخذك إلى سير دمشق القديمة، القديمة جدا، قبل أن تصبح مكانا للبرابرة الذين دمروا كل ما يمت إلى عراقتها بصلة. قبل يومين نام السوريون في الداخل والخارج، والدمشقيون على وجه الخصوص على نيران هائلة ودخان يخفي كل شيء، وخبر عن حريق هائل يجتاح سوق البزورية الشهير والمنطقة حوله، كما حدث سابقا في سوق ساروجة والعمارة، ومعظم أسواق دمشق القديمة، يقول السوريون: الحمد لله حدث الحريق ليلا فلا توجد خسائر بالأرواح، إذ يكفي ما خسرناه في الحرب وما يفعله كورونا حاليا، لكن الخسائر المادية مخيفة!! يقول السوريون: لم يحترق السوق فقط، بل احترقت قلوبنا معه، كان هذا السوق هو آخر مصدر دخل لمن تبقى من الدمشقيين في دمشق وتعفف عن تجارة الحرب والموت، آخر ما تبقى لمن رفض الرضوخ والبيع في حركة الشراء المريبة التي تريد تغيير سيرة دمشق القديمة، يحرقون كل شيء في سوريا: حرقوا الحاضر والمستقبل والتفتوا إلى الماضي الآن، يقول السوريون وهم يحاولون انتشال رائحة البزورية من وسط رائحة الحريق الخانق، علهم يحتفظون بها إلى زمن قادم أو يحملونها معهم حيث يرحلون.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
28/07/2020
1846