+ A
A -
أعاد أحد المواقع السورية (المعارضة) قبل أيام نشر صور ملف قيصر، والذي يحوي عشرات آلاف الصور لمعتقلين في سجون النظام السوري، ممن تم تعذيبهم حتى الموت ثم التخلص من جثثهم في مقابر جماعية ما زالت حتى اليوم مجهولة المكان، الصور كانت قد سربت للمرة الأولى في عام 2013، ثم في عامي 2015 و2016 عرضت الصور في مقر الأمم المتحدة في جنيف، وشكلت صدمة كبيرة يومها للسوريين والعالم، وبالطبع لم تتمكن عائلات المفقودين السوريين من ملاحقة الصور للتعرف إلى أبنائهم بين الضحايا، وإن كان كثر منهم متيقنين أنهم سوف يجدون أحباءهم ضمن الصور المعلقة في ردهات المجتع الدولي، غير أن للنفس البشرية تواطؤاتها الغريبة التي تعينها على الصمود والاستمرار، سوف يؤكد هؤلاء أن أحباءهم ليسوا بين الصور.
هكذا يبقى في دواخلهم شباك صغير مفتوح على الأمل، من هذا الشباك الصغير، الأمل الضئيل، تأتي المقاومة والصمود في وجه هذا الإجرام والقهر الذي يتلف الأعصاب والقلوب معا.
خلال الأيام القليلة الماضية وبعد إعادة نشر الموقع إياه لصور ملف قيصر، بدأت النعوات على مواقع التواصل الإجتماعي تظهر من جديد تحت اسم: (شهيد تحت التعذيب)، وفي النعوات صور لمعتقلين في سحون النظام، قبل اعتقالهم، وصور يقال إنها لهم ضمن ملف قيصر، بعض هؤلاء هم أصدقاء لنا، كتاب ومثقفون وفنانون، اعتقلهم نظام الأسد منذ سنوات واختفوا في الظلام كما حال مئات الآلاف غيرهم! ولأننا أحيانا نريد حسم الجدل باليقين دخل معظمنا إلى ملف الصور المنشور لنتأكد بأنفسنا، ويا للهول يا للهول!
أول ما يخطر لك وأنت تقلب في ملف الصور هو أنهم كانوا يجب أن يضعوا في أعلى الصفحة التنبيه التالي: (لا ينصح لذوي القلوب الضعيفة)، وهو التنبيه الذي يوضع في مقدمة أفلام الرعب، نحن داخلون تماما إلى صور خارجة من أفلام الرعب، هذا القدر المهول من التشويه لأجساد السوريين المعتقلين سيجعلك تتساءل: هل من قام بتعذيب هؤلاء الشباب ينتمي إلى فئة البشر فعلا؟! وهل يمكن للوحوش ارتكاب نفس هذه الأفعال؟! الحيوانات المتوحشة حين تهاجم فريستها تهاجمها مدفوعة بغريزة البقاء، الوعي الذي يتميز به البشر، والإدراك، العقل، هو ما يخفف وطأة الغرائز، هو ما يجعل البشر تتعامل مع غرائزها بطريقة (آدمية)، بينما الحيوانات المتوحشة وغير المؤنسنة تفتك بفرائسها لأنها طريقتها الوحيدة للدفاع عن نفسها ضد الموت أو ضد الجوع أو ضد الخطر! هل يجوز إذا تشبيه المجرمين بالوحوش؟! أكاد أجزم أن الطبيعة قد تعاقب يوما ما من يشبه مجرما يحرق أعضاء شخص آخر، لمجرد اختلافه معه بالرأي السياسي، بحيوان متوحش! في هذا التشبيه ظلم كبير للطبيعة ولعدالة السماء! خلق الله العقل للإنسان كي يعقل ويميز! من يقوم بفعل إجرامي كهذا يقوم به وهو مدرك وواع لفعلته، وغالبا يرتكبه وهو مستمتع، كما لو أنه يمارس إحدى هواياته المفضلة، المدهش: أن شخصا كهذا يعود إلى بيته ليستمع إلى الموسيقى أو يداعب أطفاله أو يعتني بحديقته وبكلبه، كأنه لم يكن قبل برهة يرتكب فعلا إجراميا لا يمت للبشرية بأية صلة!
من منا لم يقرأ أو يشاهد فيلما عن المصارعة التي كانت تتم زمن الأمبراطورية الر ومانية، حين كان يؤتى بالسجناء (العبيد) إلى ملعب ممتلئ بالمتفرجين، ثم يطلقون أسودا جائعة على السجناء، وعلى السجين أن يصارع الأسد حتى الموت، ومع كل نقطة دم تسيل من السجين كان الجمهور يزداد اهتياجا ويطالب بالمزيد، كثر منا يعتبرون أن هذا لم يكن يحث في الحقيقة، بل هو خيال فني درامي لا يمت للواقع بصلة، لكن الحقيقة أن ثمة مجاهل في النفس البشرية لم يستطع أحد الكشف عنها، وتحتاج فقط إلى الدخول في التجربة لنتأكد من وجودها.
جزء من تكذيب «الهولوكوست» في الوعي الجمعي العالمي كان يأتي من فكرة أن التفاصيل التي تم سردها عن طرق التعذيب والقهر تتفوق على الخيال، وأن هذا لا بد أن يكون اختلاقا يلعب فيه الخيال دورا كبيرا، غير أن «الهولوكوست» كان حقيقة -بغض النظر عن استثمار الحركة الصهيونية له لاحقا- كان أمرا حدث فعلا، ومن قاموا به هم بشر مثلهم مثل ضحاياهم، وأظن أن بعض حياد العالم تجاه ملف قيصر هو أن تعذيب المعتقلين يفوق الخيال، يفوق قدرة البشر على الفهم والتصديق، كما حصل تماما مع «الهولوكست»، وكما كان من نتائج «الهولوكوست» توحش الصهيونية تجاه ضحاياها، من يمكن له أن يضمن ما ستكون عليه حال عائلات ضحايا هولوكوست الأسد في المستقبل؟!
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
30/06/2020
1551