+ A
A -
«أنا لا أتنفس، أنا لا أتنفس، أنا أتألم» كان الرجل البالغ من العمر ثمانية وأربعين عاما، يحاول القول بصوت متحشرج، وهو يواجه الموت تحت ركبة الشرطي الذي كان يضغط على عنقه، يضغط بكل قوته، إذ أنه لم تكد تمر دقائق سبع حتى كان فلويد قد فارق الحياة مختنقا، دون أن يلتفت الشرطي إلى حشرجات ضحيته وتوسلاتها، فجورج فلويد هو مجرد (زنجي)، رجل أسود، يقول الشرطي إنه كان قد قدم لمحاسب السوبر ماركت ورقة عشرين دولارا مزيفة، بعد أن اشترى علبة سجائر، في مدينة مينيابوليس التابعة لولاية مينيسوتا في الولايات المتحدة الأميركية، فلويد الذي كان يعمل حارس أمن في شركة كبرى، فقد وظيفته بعد انتشار كوفيد 19، شأنه في ذلك شأن الملايين حول العالم، المفارقة أن ورقة العشرين دولارا لم تكن مزيفة، وأن العامل في السوبر ماركت هو من أخطأ، أي أن فلويد كان بريئا تماما، وأنه فقد حياته بهذه الطريقة العنيفة بسبب اشتباه فقط.
هل لو كانت القضية ذاتها قد حدثت مع رجل أبيض لكان لاقى المصير ذاته؟!
تعطي المظاهرات العنيفة التي اندلعت في مينيابوليس وفي أنحاء عديدة من الولايات المتحدة، والتي يشكل السود عصبها الأساسي، جوابا حاسما على ذلك، إذ ثمة مظلومية كبيرة ما زال السود يشعرون بها حتى الآن، رغم مضي عقود طويلة على صدور قانون مكافحة العنصرية، ورغم كل التحقق الذي يحظى به سود أميركا والعالم المتقدم على أصعدة كثيرة، وليس من أمر أكثر بلاغة على ذلك من استلام أوباما رئاسة أكبر دول العالم وأغناها، ولكن يبدو أن الذاكرة الجمعية التي تختزن العنصرية داخلها لم تخفها القوانين والدساتير المتقدمة، إذ بقيت هذه الذاكرة محتفظة برواسب كبيرة، تظهر في مواقف شتى، وتظهر أكثر في الأزمات البشرية الكبيرة، وتلعب السياسة دورا كبيرا في إنعاش الذاكرة العنصرية، حيث تعزز السياسات اليمينية في بلدان العالم الأول تنمر الشعبوية لدى ما يعرف بمصطلح (الرجل الأبيض) ضد المختلفين عرقيا ودينيا وطبيقا، ومصطلح الرجل الأبيض يرمز إلى السلطة عموما، السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي غالبا ما تعتمد خطابا شعبويا يمكنه استعادة كل ما خبأته الذاكرة من ارتكابات عنصرية مورست خلال التاريخ البشري الحديث، سيواجهها استعادة مظلومية مقابلة تخزن كل ما ارتكب ضدها عبر التاريخ، وهو ما جعل السود في أميركا يجتجون إثر موت فلويد المريع، خصوصا أن سلطة ترامب تستفز كل الغرائز الشعبوية في عنصرية اليمين الأبيض.
غير أن موت فلويد ليس سوى الشعرة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، إذ أنه على ما يبدو أن هناك نارا كانت تتأجج منذ مدة، زاد لهيبها ما يحدث في العالم من أزمة كوفيد 19، وفي أميركا على وجه الخصوص، فرغم أن سياسات ترامب الاقتصادية كانت ستؤدي إلى الانفجار يوما ما، فإن كوفيد 19 جعل الانفجار أقرب، خصوصا لدى سود أميركا، الذين فضح الفيروس حقيقة أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وفضح ما يتعرضون له من تهميش وإقصاء، فهم الأكثر إصابة بالفيروس، وهم الأكثر عددا بين ضحاياه، ليس فقط بسبب إقصائهم عن التأمين الطبي والرعاية الصحية، أيضا بسبب ضعف مناعة معظمهم، كما أن معظم من فقدوا وظائفهم هم من السود، فهم العاملون بالوظائف والمهن التحتية، ذات المدخول القليل، والتي يمكن التضحية بها عند أول أزمة، وهم إحدى الحلقات الضعيفة في المجتمعات، وعادة ما يلقى عبء ما يحدث على الحلقات الأضعف، لإبعاد النظر عن المسؤولية الحقيقية، ليس فقط لأنهم سود، بل أيضا لأنهم فقراء،
ما يحدث في أميركا اليوم كرد فعل على مقتل جورج فلويد هو في إطار الاحتجاج على هذه السياسات، وما انضمام «الأميركان البيض» إلى الاحتجاجات سوى دليل على ذلك،
إن انهيار النظام الصحي، وانهيار الاقتصاد والاستغناء عن ملايين العاملين في العالم وفضيحة التوحش الرأسمالي الذي ساهم بتوسع الكارثة، وعدم الشفافية بخصوص الوضع في العالم، وعدم وضوح أي رؤية للمستقبل القريب، كلها أسباب تجعل من احتجاجات أميركا الحالية مجرد موجة أولى قد تتبعها موجات في أماكن أخرى من العالم.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
02/06/2020
1313