+ A
A -
الموت حق على العباد جميعاً «إنّك ميِّتٌ وإنّهُم ميِّتون» (30 سورة الزمر) ولكن أحداً لا يحبه، وعندما قال أبو بكرالصدّيق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما «اطلب الموت توهبْ لك الحياة» لم يكن يحرضّه على أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، بل كان يعني: أقدِم إقدام من لا يخشى الموت فإنك ستنتصر، وتوهب لك الحياة.
ومنذ قال ابن نباتة السعدي في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي بيته المشهور:
من لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِه
تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ
وجعله الناس مثلاً، بل صار كل شطر مثلاً، أرادونا أن نؤمن بأن الموت واحد، لا والله ليس واحدا، فموت الغني ليس كموت الفقير، وموت ذي الجاه والسؤدد ليس كموت البائس المشرد، وموت الكبير ليس كموت الصغير، وموت الابن أو الابنة ليس كموت الأب أو الأم أو الجد أو الجدة، وموت الغريب ليس كموت الإنسان محاطاً بأولاده (وربما أحفاده) وأهله وأقربائه وأصدقائه.
مات بدر شاكر السياب وهو يصرخ «يا عراق» ويتطلع إلى البصرة ولا يستطيع الوصول إليهما، ولذا صرخ مظفـّر النواب صرخة المبعد عن أهله ووطنه «أبكيكَ بحزن الغرباء وكلُّ الحزن لدى الغرباء مذلـّة».
قد يتمنى المرء أن يموت في قصر بكل ما يعني ذلك، أو في بقعة جبلية محاطة بالأشجار تطل على البحر، أو ربما في خيمة مفتوحة جوانبها الأربعة للرياح وتطل على الصحراء، أو تحت نخلة، أو تحت سنديانة وارفة الظلال في قرية شامخة في الجبل، وربما لا يهمه شيء من هذا كله، المهم عنده أن يموت في وطنه.. آخ أيها الوطن.. كم تأكل من أرواحنا.
حتى في الموت يهرب المرء من الغربة.. قد تكون الغربة قد أعطته أكثر مما أعطاه الوطن، أعطته المال والرفاه والتقدير وربما الشهرة، وقد تكون الغربة أجمل بكثير من الوطن وأغنى ولا مجال للمقارنة، ولكن الوطن أغلى، ولعل الفلسطيني الذي يحمل معه مفتاح بيته القديم في قريته في فلسطين يعيش الآن في ترف ورفاهية في مدينة أنيقة حديثة، لكنه يحن أبداً إلى قريته، ويتمنى أن يدفن فيها.
هكذا أتصور صديقي الذي رحل عنا صباح الخميس 14 / 5 / 2020 بسبب الكورونا (كوفيد 19) هل قدرك أن ترحل يا رياض في ذكرى نكبة العرب في فلسطين، والنكبة أصغر منك عمراً بعام واحد، أنت جئت إلى الدنيا 1947، وهي صارت رسمية 1948، شرّق رياض وغرّب من كاليفورنيا في الولايات المتحدة إلى اليابان، إلى بريطانيا وباكستان إلى الإمارات إلى تونس يقدّم رؤاه المسرحية معدّاً ومخرجاً ومشرفاً على فرقة أو عرض، وحمله العمل الدبلوماسي سفيراُ إلى باكستان، ثم إلى قطر، وكان قد جاء إليها من قبل مشرفاً على الصفحة الثقافية بجريدة الشرق.
كان رياض إسفنجة تمتص العلم والخبرة والثقافة ولا تشبع، وبدا محيِّراً أحياناً في قدرته على المتابعة لاكتساب المزيد، لا يقف عند حدود، بل هو المثقف بالمعنى الشمولي، قُدمت معظم مسرحياته في سورية ودول عربية أخرى، منها لبنان والعراق وتونس وليبيا والسودان ومدينة القدس، ولاقت كثير من مسرحياته (مؤلفاً) التقدير الذي تستحق.
ولد رياض عصمت في دمشق، ونال بكالوريوس في الأدب الإنجليزي 1968. شغل خلال مسيرته الابداعية عدداً من المناصب، منها عميد المعهد العالي للفنون المسرحية، ومعاون وزير الثقافة، والمدير العام للإذاعة والتلفزيون، كما عمل سفيراً لبلاده في باكستلن ثم في قطر، وأخيراً كان وزيراً للثقافة بين 2010 و2012، غادر بعدها سورية إلى الولايات المتحدة ليعمل كأستاذ زائر في «جامعة نورث وسترن» في مدينة إيفانستون بولاية إلينوي.
سافر إلى بريطانيا لاستكمال دراسته العليا، فدرس «تدريب الممثل» ثم نال دبلوماً عالياً في الإخراج المسرحي 1982 من جامعة كارديف في ويلز، وتدرب على الإخراج التلفزيوني في «بي. بي. سي.» 1983، كما تلقى عدة دورات في فن الإيماء في «مركز الإيماء» بلندن على يدي آدم داريوس وسواه.
سافر إلى الولايات المتحدة، لينال دكتوراه عن أطروحته حول تدريب الممثل 1988. ألقى عدداً من المحاضرات عن المسرح العربي، وعن نجيب محفوظ، في جامعات «بيركلي»، و«سان- فرانسيسكو»، و«واشنطن». ألّف 33 كتاباً بين مسرحيات وقصص ونقد. أشهر مسرحياته: «لعبة الحب والثورة»، «الحداد يليق بأنتيغون»، «السندباد»، «ليالي شهريار»، «عبلة وعنتر»، «جمهورية الموز» وأشهر كتبه النقدية: «بقعة ضوء»، «شيطان المسرح»، «البطل التراجيدي في المسرح العالمي»، «الصوت والصدى: دراسة في القصة السورية الحديثة»،«ذكريات السينما»، «رؤى في المسرح العالمي والعربي»، إضافة إلى كتابين مترجمين هما: «سينما الغرب الأميركي» و«التمثيل السينمائي». أشهر مجموعاته القصصية: «غابة الخنازير البرية»، «الثلج الأسود»، «شمس الليل» و«ليلة شاب الغراب».
فاز رياض عصمت بالجائزة الأولى في المسابقة التي نظمتها إذاعة صوت ألمانيا عام 1993 لأفضل قصة عربية من بين 1095 متسابقاً، عن قصته «واحة لا تحب العصافير» التي حولت مرتين إلى تمثيلية إذاعية في ألمانيا، كذلك ترجمت إلى اللغة الألمانية وقدمتها في حلقات طويلة إذاعة صوت ألمانيا، وقدمت مرة في إذاعة صوت العرب في القاهرة.
ولكن هذا كله لم يشغله عن وطنه سورية وعن دمشق، وكأنما أحس بدنو الأجل فكان يعبر عن رغبته في ان يدفن فيها، ولكن إرادة العلي القدير شاءت أن يموت هناك في شيكاغو ويدفن فيها، بعيداً عن مدينته ووطنه، غريباً لا يحيط به الأصدقاء.
copy short url   نسخ
19/05/2020
1425