+ A
A -
أجلتُ مراجعة شهادة الشيخ د. حسن الترابي رحمه الله زمناً طويلاً، وكانت رحلته مهمة لفهم تجربة الحركة الإسلامية في السودان بين مفهوم الدعوة والدولة، وبين فكرة التربية الدعوية والدولة المدنية ودمجها بالفكر الإسلامي الذي كان يعتقده، العديد من الملفات أثارها حديث الشيخ الترابي في شهادته على العصر، في حلقات امتدت لعشر سنوات مع مقدم البرنامج أحمد منصور في قناة الجزيرة.
غير أن متابعة شهادته بعد الانتفاضة، التي أسقطت حكم الرئيس عمر البشير ونظام الإنقاذ الذي وضع مشروعه الفكري الترابي نفسه، يعطي دلالات مهمة وحيوية، ليس لنقد تجربة الترابي ذاته، ولا الحركة الإسلامية في السودان فقط، ولكن لدلائل مستقبل السودان السياسي اليوم، وفُرص صمود حلم الدولة المدنية، بعد مواسم عديدة من هيمنة القوة العسكرية، وتمزّق الشارع المدني نفسه، على مستوى الأحزاب التقليدية أو التيارات الفكرية المتجددة.
كما أن رحلة الشيخ حسن كما أكد ذلك بنفسه، تأتي ضمن أهم محطات التجربة السياسية للحركة الإسلامية العربية، من حيث وصول الحركة للحكم، أو هكذا ظن الشيخ حسن ورفاقه، قبل أن يتبين له أن الروح العسكرية ظلت متربصة بمشروعه حتى أسقطته، وأذاقته أقسى وأطول فترات الاعتقال، وكانت هذه المرة عميقة بطعنات الرفاق والتلاميذ ذاتهم، فضلاً عن انشقاق المصالح وتخندق الحركة في السودان.
ملفات عديدة ومهمة يعكس بعضها تاريخ السودان الحديث، وتمازج الأرض الإفريقية مع الروح العربية، التي سعى الترابي لتكون حالة اندياح فكري واجتماعي مختلف، تتحد مع طموحات وطباع أهل إفريقيا، وتمثل موزاييك يترسخ من خلال رحلة العرب والأفارقة، المتعايشة منذ دخول السودان في الإسلام.
وملفات علاقة السودان الجديد بعد قيام الإنقاذ بدول الطوق الإفريقي، وبالدولة الشقيقة الشرسة شمال النيل، التي تحمل ذاكرة الخرطوم لها حكاية مزدوجة، بين الشقيق الثقافي والعربي، وبين روح الدونية التي كان يستشعر السودانيون، بأنها راسخة في أرض الأشقاء منذ حملة محمد علي والإنجليز، حتى دوافع قرار القاهرة دحرجة رأس الترابي، التي واجهها سيف المهدي قبل فكر الترابي.
في رحلة الشيخ حسن مزيج من حديث الإنسان وحيوية الفكرة المتقدة، وروحه الباحثة منذ مرحلة الجامعة، لفكرة التغيير وجرأته في التقدم إلى عالم التحديات السياسية والثقافية، التي قدمته في مواجهة العسكر منذ عهد عبود، وطبيعة العلاقات السودانية، التي تبقي جسور وعلاقات التراحم والود الاجتماعي رغم حديد الساسة ونارها.
كما أن رحلة د. الترابي شملت علاقته المشتبكة مع الدول العربية صداقةً وعداءً، بدأً من خصوم الإنقاذ في الدولة السعودية، التي كان له رابطةً معها أيضاً، وخاصة في رحلته باسم الوساطة الإسلامية بين العراق والسعودية، لأجل ما كان يُروّج له من إقناع صدام حسين بالانسحاب السلمي، ثم انقلاب موقفه في بيان بغداد الشهير، الذي حُسم لصالح العراق.
الترابي الذي نقد بتهكم لاذع التنظيم الدولي الإخواني وعجزه، عن فهم متطلبات الدولة، هو ذاته الذي بقيَ متصلاً بهيكل الدعوة العالمية، وممتداً في جسوره معها، وهو الترابي الذي أغاض المشروع الكولونيالي الغربي، حين كان يسعى لتمرد السودان الإفريقي عن هيمنة القوة الشمالية الغربية، وهو ذاته الذي ألقى خطاباً مهماً في الكونغرس، يدعو العالم الشمالي للاعتراف بروح الجنوب الإسلامية والإنسانية، وحاور شخصيات الغرب بلسان إنجليزي وفرنسي مبين.
وهناك سلة محاور لا يمكن أن تعبر بسهولة على سيرة الشيخ الترابي، لتنصف تحميله مآل التجربة، بين فشل الفكرة وفشل المرحلة حيث غدر به رفاقه، وبين مسؤوليته في دورات عديدة، حين أدرك أن العسكر لن يتركوه يمضي إلى أي نقل سلمي للمؤسسات الشعبية، بحسب مذهبه الفكري، وإطلاق الإسلام لحركة الشعوب وأنهم هم من يحدد ثقافتهم لا السلطة، وضبط الحاكم تحت المراقبة الشعبية، والنقد المركزي أو الفرعي، والذي يشرح حياة الشيخ الترابي بقلم محايد هادئ، سيجد أيضاً أن الرجل نفسه أقر بمسؤوليته أكثر من مرة ولم يختبئ.
وللحديث بقية
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
10/05/2020
3281