+ A
A -
في 16 يونيو الماضي قُتلت النائب عن حزب العمال البريطاني جو كوكس على يد متطرف يميني له سجل طبي في الاضطراب العقلي. وبعد اسبوع واحد في 23 يونيو قُتلت النائب كوكس مرة ثانية على يد الناخب البريطاني الذي فك ارتباط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. كانت كوكس من مؤيدي الاتحاد الأوروبي، وكانت تقوم بحملات التعريف بأهمية الوحدة مع أوروبة. كما كانت تطمح في ان يصل حزب العمال الذي تنتسب اليه إلى السلطة. وأن تتولى هي حقيبة وزارة الخارجية في الحكومة العمالية، حتى تعمل على إزالة العوائق التي تحول دون اكتمال الوحدة الأوروبية مع المملكة المتحدة.
اذا كان القاتل الأول مريضاً عقلياً، فان القاتل الثاني يتمتع بكامل قواه العقلية. واذا كان القاتل الأول قد أودى بحياة عضو في مجلس العموم في مطلع الأربعين من عمرها، فان القاتل الثاني أودى بحياة طموحات جيل كامل من البريطانيين الشباب الذين ربطوا مصيرهم ومستقبلهم بالاتحاد الأوروبي.
انتخبت كوكس عضواً في مجلس العموم البريطاني في عام 2015. ونظراً لغلاء المعيشة في لندن، فقد استأجرت وزوجها قارباً صغيراً ليكون مسكناً لهما على نهر التايمز في العاصمة البريطانية. وكانت تنتقل من هذا المنزل – المركب بالدراجة الهوائية إلى مجلس العموم. وكانت تنتقل بالمنزل - المركب من والى العاصمة لندن حيث تمارس وظيفتها السياسية، إلى بلدتها في يوركشاير عبر نهر التايمز.
كانت الوحيدة من بين أفراد عائلتها التي تمكنت من التحصيل الجامعي. وخلال دراستها اشتغلت عاملة اجتماعية لمدة عشر سنوات بأجر متواضع. ولذلك كانت تتمتع بحسّ اجتماعي رقيق مكّنها من تفهم قضايا اللاجئين والتعاطف معهم. وذهبت إلى دارفور في السودان لتوثيق قصص الاغتصاب التي تعرضت لها أعداد كبيرة من النساء على يد العصابات المتقاتلة هناك.. وقصص تجنيد الأطفال وتدريبهم على القتل.. حتى على قتل آبائهم!!
ولعل أول بروز لشخصيتها السياسية المميزة كان بمناسبة اصطدامها بالسفير الروسي في لندن عندما أعربت له بصوت مرتفع ومتهدج عن ألمها الشديد لما يعانيه الشعب السوري من جراء قصف الطيران العسكري الروسي دفاعاً عن نظام متهم بارتكاب جرائم حرب ضد شعبه. يومها قال لها السفير الروسي بغضب: «اذا وصلت فعلاً إلى وزارة الخارجية فانك بهذه العقلية سوف تسيئين إلى مصالح والى علاقات بلادك مع الاتحاد الروسي».. فردت عليه قائلة: انني في ذلك أعبّر عن الضمير البريطاني .
ومن المؤسف ان صاحبة هذا الضمير قتلت مرتين. فعملية القتل الأولى أراحت السفير الروسي في لندن. اما عملية القتل الثانية فقد أراحت الحاكم الروسي في موسكو. فالرئيس بوتين يفرك يديه جذلاً وسعادة وهو يرى الاتحاد الأوروبي الذي اتخذ قرارا بتجديد العقوبات المالية والاقتصادية على بلاده، يواجه من خلال نتائج الاستفتاء البريطاني، أعنف أزمة صدعت أركانه.. وصرفته من معركة استعداء الاتحاد الروسي إلى معركة استعداء الاتحاد الأوروبي ذاته.
ولعل الأمل الروسي الكبير الآن هو كيف يمكن نقل أزمة الاتحاد الأوروبي الجديدة وغير المتوقعة إلى حلف شمال الأطلسي بالقدر ذاته من التصدع؟ صحيح ان الاتحاد الأوروبي شيء، وحلف الأطلسي شيء آخر، وصحيح ان الحلف سابق للاتحاد بعقود من الزمن، ولكن الدول المكونة للحلف وللاتحاد في معظمها هي ذاتها، وخاصة الأطراف الرئيسة: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
ثم ان تركيا وهي عضو رئيس في الحلف الأطلسي، فقدت الأمل بدخول الاتحاد الأوروبي بعد انتظار عقود طويلة ومهينة. حتى ان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان اعلن نيته اجراء استفتاء شعبي على غرار الاستفتاء البريطاني لتقرير ما اذا كان على تركيا ان تسحب طلب انضمامها - الذي عفا عليه الزمن- إلى الاتحاد.
كانت النائب البريطاني جو كوكس المغتالة مرتين – تقول ان تجاهل المشكلة يجعلها اشد سوءاً . سواء كانت المشكلة تتعلق بالمهاجرين إلى بريطانيا، أو بانتهاكات حقوق الإنسان في سورية أو دارفور. أو في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. وكانت تعتقد ان مواجهة هذه المشاكل –وسواها- في اطار الاتحاد الأوروبي هي أكثر جدوى وأشد فعالية. ولذلك كانت متحمسة لبقاء بريطانيا في الاتحاد. وهو الحماس الذي لم تشاركها فيه قاعدة حزب العمال –خلافاً لقرار الحزب - التي كانت تتخوف على مستقبل أعمالها ومصالحها في ظل الذوبان البريطاني في الاتحاد.
وبهذا الموقف السلبي تكون قاعدة حزب العمال قد خذلت النائب كوكس، وتكون تالياً قد شاركت في عملية الاغتيال الثاني. مع ذلك كله، فبعد الاستفتاء وبعد النتائج التي اسفر عنها، فان حزب العمال لم يبقَ كما كان. ولا حزب المحافظين.. ولا حتى المملكة المتحدة ذاتها.

بقلم : محمد السماك
copy short url   نسخ
30/06/2016
2501