+ A
A -
قبل أيام أرسل لي صديق مخرج سوري مقيم في ألمانيا حاليا، فيلما قصيرا كان قد صوره في عام 2010، أثناء الدورة الأخيرة من مهرجان السنديان الثقافي الذي كنت أنظمه مع مجموعة من أبناء قريتي (الملاجة)، في سوريا، واستمر لمدة خمسة عشر عاما، قبل أن يتوقف بسبب الثورة، وبسبب ما حدث في سوريا بعد الثورة، الفيلم يحمل عنوان (في ظلال السنديان) وأنتجه المركز الثقافي البريطاني في بيروت بمنحة كانت مخصصة لمشاريع فنانين سوريين توقفت بسبب الحرب.
مبدئيا، سوف تبدو شهادتي في الفيلم مشكوكا بأمرها، ومجروحة كما يقولون، فالفيلم يعنيني ويمسني بشكل شخصي، فهو يصور مشاهد من مشروع كنت أعتبره مشروع حياتي الشخصي والعام في آن واحد، والمكان الذي ساهمت في إنشائه بعمل لوجستي مع مجموعة من الأصدقاء والأهل، هو قريتي، والفنانون والشعراء والصحفيون والضيوف الذين يظهرون في الفيلم أنا من قمت بدعوتهم، والأطفال في الفيلم هم أبناء أقاربي، حيث تشترك قريتي كلها بالنسب، حال كل القرى الصغيرة في سوريا. لكن الفيلم في الحقيقة يقدم صورة جمالية مدهشة عن حالة استثنائية حصلت في قرية صغيرة في سوريا على مدى عدة سنوات، كان هدفها تكريس قيم الجمال والفن، عبر الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية المختلفة، دون أي محاولة لتمجيد النظام ذلك الوقت، وهو ما كان يعرضني سنويا لمساءلات أمنية ومنع سفر، ومحاولات لإيقاف المهرجان، لولا أنني لجأت إلى حيلة تربط المهرجان بذكرى والدي الشاعر السوري الراحل (محمد عمران)، والذي كان من أوائل مدرسي اللغة العربية في سوريا، عدا عن أنه استلم رئاسة تحرير عدة دوريات ثقافية مهمة في سوريا، جعلت لاسمه، ولنا، نحن أبناءه، بعض الحصانة في ذلك الوقت.
عشر سنوات مرت على تصوير الفيلم، عقد كامل من الزمن، كبر خلاله جيل الأطفال الظاهرين فيه، وأصبحوا شبانا وفتيات في مقتبل أعمارهم، وثمة أصدقاء كثر كانوا موجودين قد رحلوا إلى عالم، وثمة منهم من انقطع عن التواصل معي نهائيا، بسبب موقفي ضد النظام والمؤيد للثورة منذ لحظاتها الأولى، فالاصطفافات السياسية استطاعت أن تصنع قطيعة كاملة تصل حد العداوة مع من كانوا ذات يوم أصدقاء مقربين، ولم ينج من ذلك سوى قلة قليلة فهمت أن الإنسانية أكثر أهمية من السياسة التي تجعل من عدو الأمس صديق اليوم والعكس صحيح أيضا، مما يفقدها أية مصداقية أو أخلاقية، وفي الفيلم أيضا يظهر الكثير من الاصدقاء الفنانين والشعراء والموسيقيين الذين غادروا سوريا متفرقين في أنحاء العالم، وأملهم في العودة بات من المستحيلات لأسباب عديدة ليس بقاء النظام بكل تركيبته الأمنية والعسكرية سوى واحد منها، ومن منهم بقي في سوريا فهو يعاني من إحساس مضاعف بالفقد والغربة وفقدان الأمل، وثمة في الفيلم أيضا أصدقاء فقدوا ابناءهم في المقتلة السورية، منهم من فقد ولدا في معتقلات النظام السوري وعلى يد جلاديه، ومنهم من فقد ولدا على يد داعش والنصرة وجيش الإسلام، ويظهر في الفيلم أيضا أصدقاء فقدوا بيوتهم بقصف النظام لمدنهم وقراهم، وآخرون فقدوها نتيجة احتلالها من قبل ميليشيات تدعي معارضة النظام.
لوهلة وأنا أشاهد الفيلم شعرت أن هذا العقد من الزمن ليس أكثر من كابوس مرعب صحوت منه مع موسيقى الفيلم ومشهد طرقات قريتي في البداية، غير أن الواقع عاد بشراسة مهولة وأنا أرى حال سوريا الآن مجسدة تماما في شخصيات الفيلم وفي مصائرهم اللاحقة التي فرضتها القيامة السورية بداية 2011، فالمهرجان كان حالة تشبه الحلم بسوريا أخرى، أقرب إلى يوتوبيا الفن والجمال والمحبة والألفة والمواطنة، وهو ما حلم به ثوار السنة الأولى من ثورة سوريا، غير أن ما حدث هو العكس تماما، اليوتوبيا تحولت إلى ديستوبيا، والحلم إلى كابوس، ومصائر البشر أصبحت مرعبة سواء في شخوص الفيلم أو في الثورة.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
21/04/2020
1563