+ A
A -
بقلم :
نزار عابدين
كاتب وإعلامي سوري
} قرأت في مقالة أحد الكتاب «الانتخابات وما أسفر عنها من نتائج» وقرأت في مقالة أخرى «وتمخضت عن المؤتمر قرارات مهمة» والجملتان خطأ، وتتكرران كثيراً في المقالات والكتابات الصحفية، وهما بعامة تعكسان المعنى، وتنسبان الفعل إلى غير صانعه.
كثيراً ما نقرأ في التراث «وأسفرت عن وجه كأنه فلقة القمر»، قال أبو فراس الحمداني:
تبسّمَ إذ تبسّمَ عن أقاحٍ
وأسفر حين أسفر عن صباح
وكثيراً ما نقرأ أيضاً «وأسفر عن وجهه فإذا هو فلان» أي كان متقنعاً، فكشف القناع، فعرفناه. والسفْرُ هو الكنس، والسُفارة: الكناسة، ويقال: سفرت الريح الغيم عن وجه السماء، أي كشطته فانسفر، وسمي السفر(بفتح الفاء) بهذا الاسم لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافياً فيها، وسفر الصبح وأسفر إذا أضاء، وفي التنزيل الحكيم «وجوه يومئذ مسفرة» ونعود إلى الجملة التي يوردونها خطأً، فالذي أسفر هو الانتخابات، فكأن النتائج كانت مخبأة وراء قناع، فلما «انسفر» هذا القناع عرفنا النتائج، الصحيح إذن «الانتخابات وما أسفرت عنه من نتائج».
- هل تذكرون القول الشهير «تمخض الجبل فولد فآراً»؟ هذا مثل عربي قديم، ويضرب عندما تكون النتائج مخالفة للتوقعات، ولا تساوي التعب والجهد الذي بذل في سبيل الحصول عليها، وقد قاله رجل حكيم من البدو الرحل، كان مع قومه مسافرين، ونزلوا في وادٍ، وقرروا نصب خيامهم بالقرب من الجبل، وبينما هم جالسون شاهدوا بعض الرمال والحجارة الصغيرة، تتساقط من الجبل، شعر جميع الجالسين بالخوف الشديد ظنا منهم أن خطراً قادم، أو أن زلزالاً قد يقع، ونهض الجميع مسرعين من المكان وقاموا بمراقبة الجبل جيداً. وبعد قليل خرج من أحد الجحور في الجبل فأر، وفر أمامهم مسرعاً إلى الجانب الآخر من الوادي، فضحك الجميع، وعندئذ قال شيخهم: (تمخض الجبل فولد فأراً).
وهو على المجاز، فمن يتمخض هو الأنثى الحامل من البشر أو من الحيوان، والمخاض هو الطلـْق، لكن كثيراً من الكتّاب يوردون المثل فيعكسون المعنى، كالعبارة التي أوردناها قبل قليل «وتمخضت عن المؤتمر قرارات مهمة» فلا يتمخض المولود بل الأم، ولا يجوز أن ننسب فعل المخاض إلى المولود، والصحيح طبعاً «تمخض المؤتمر عن قرارات هامة».
- تتكرر كلمة «شتى» كثيراً في الكتابات العربية، ولكن معظم الذين يوردونها يخطئون في موضعها: هل هي بعد الاسم أم قبله؟ تقرأ مثلاً: بحث المؤتمرون شتى الخلافات بينهم، وتقرأ أيضاً: وتطورت العلاقات بينهما على شتى المستويات، والقولان خطأ، لأنهم قدموا شتى وكان يجب أن يؤخروها، ويذكرنا هذا بكلمات «خاصة وعامة وكافة» فمعظم الناس يقدمونها، بينما الصحيح أن يؤخروها، فلا تقول: إن من واجب العرب وخاصة الفلسطينيين أن يفعلوا كذا، بل تقول: إن من واجب العرب عامة والفلسطينيين خاصة أن يفعلوا كذا.
وردت كلمة «شتى» ثلاث مرات في القرآن الكريم «وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى» (طه 53) وقال تعالى «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى» (الحشر 14) وقال سبحانه «إن سعيكم لشتى» (الليل 4).
والكلمة «شتى» مشتقة من الفعل «شتّ» أي فرّق أو افترق، وقوم أو أشياء «شتّى» أي متفرقون، وفي الحديث الشريف، قلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد تجمع الناس، قال: (نعم، فيهم المستبصر – أي المستفهم والمستوضح – والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتّى، يبعثهم الله عز وجل على نيّاتهم) وفي حديث الأنبياء «الأنبياء إخوة من علّاتٍ، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد».
- نقرأ ونسمع في الأخبار «يقوم المبعوث الدولي بمهمة وساطة بين الأطراف المتحاربة» ونقرأ أيضاً «وأرسل المسؤولون وسيطاً إلى المنطقة» ونقول في العامية «هذا عنده واسطة قوية» ولم تكن كلمة «واسطة» تعني هذا، بل كانت تطلق على الجوهرة التي «تتوسط» العقد، وهي عادة أنفس ما فيه، قال ابن الرومي يرثي ولده في قصيدة من أروع قصائد الرثاء:
توخَّى حِمامُ الموت أوسطَ صبيتي فلله كيف اختار واسطة العِقدِ
ونسمع أو نقرأ «وتوسط الوزير بين الطرفين»، وتنتشر كثيراً كلمات مثل «الوسط الثقافي» و«الأوساط الفنية أو الرياضية» وقد يقول أحدهم «وسائط النقل العام» ويقول بعض الناس أحياناً «وسائط التواصل الاجتماعي» بدلاً من «وسائل» حتى ساد في الفكر الحديث مفاهيم مثل «الشرق الأوسط». معظم هذه الكلمات فصيحة، وإن كان معناها قد تغير، وبعضها اشتقاق جديد، وجميعها مشتقة من الجذر «وسط» وثمة إشكال في قراءة هذه الكلمة: هل هي بفتح السين أم بسكونها؟ وباختصار كل موضع صلح فيه «بين» فهو «وسْط» (بسكون السين) وإن لم يصلح فهو «وسَط» (بفتح السين) كقولك: أمسكت وسَط الرمح أو الحبل أو العصا، أي كل ما له طرفان، بينما نقول: جلس وسْط أهله. والآن، أي من هذه الكلمات قديم وأيٌّ جديد مستحدث؟
وسّطه: جعله في الوسط، وصارت تعني: جعله وسيطاً. الواسطة: إذا كانت في البلدان فهي واسطـُه، وهي أيضاً الجوهر الذي في وسط العقد أو القلادة، وصارت تعني ما يُتوصل به إلى الشيء. الوسيط هو المعتدل بين حدين، وصارت تعني من يتوسط بين المتبايعين أو المتعاملين، ونسمع الجمع وسطاء.
- قلت مرة في ندوة: أرحب بالآنسات، فاستغرب الحضور وقالوا: وأين السيدات؟ وكان خطابك أفضل لو ذكرتهن، فالحاضرات كلهن متزوجات. قلت: ومع ذلك فإنهن أوانس (جمع آنسة) فقد اعتبرنا دائماً أن «الآنسة» هي التي لم تتزوج، فإذا تزوجت صارت «سيدة» لأننا اعتمدنا على ترجمة الكلمتين من الإنجليزية والفرنسية، أي إن «آنسة» مقابل للكلمة الإنجليزية Miss أو الفرنسية Mademoiselle مع أن الكلمة في اللغة العربية اسم فاعل مؤنث من فعل «آنس» والدليل أن العرب قالوا «آنس» كما قالت خولة بنت ثابت (أخت الشاعر حسان بن ثابت) متغزلة:
كيف تلحوني على رجلٍ آنسٍ تلتذّه كبدي
ومن طريف هذا أن العاملة في حقل التعليم في سورية تسمى «آنسة» مع أنها قد يكون لها أحفاد، ويقول المصريون «أبله» ويضخمون اللام، وهي كلمة تركية تعني: الأخت الكبرى، فالآنسة إذن هي التي تؤنس، ولا علاقة للكلمة بأنها لم تتزوج.
- كثيراً ما نقرأ في الكتب القديمة (فقال له: لله درُّك) فهل هذا مديح أم هجاء؟ إنه مديح، والدر في الأصل اللبن فنقول: درَّت الناقة، أي سال لبنها (الغريب أن العامة يستخدمون الكلمة نفسها) ثم استعاروا الكلمة للعمل من خير وشر، فإذا قال: لله درُّه من رجل، فإنما يمدحه ويقول: لله عملك، لأن العرب كانوا إذا كثر خير الرجل وعطاؤه قالوا هذا، أي لله عطاؤك وخيرك، فكيف يهجون؟ يقولون: لا درَّ درُّك، أي لا زكا عملك، والقولان كما أسلفنا مأخوذان من درَّت الناقة.
copy short url   نسخ
08/04/2020
1409