+ A
A -
قبل أكثر من «3» سنوات تعرضت لأزمة قلبية حادة، استدعت دخولي سريعا إلى المستشفى وتحويلي إلى غرفة العلميات لإجراء عملية قلب مفتوح وتغيير الشرايين التالفة، كان الخوف من العملية وتداعياتها المحسوبة وغير المحسوبة في كفة (فهذه واحدة من أكثر العمليات الجراحية خطورة حسب تصنيف الطب)، والخوف من بقائي وحيدة بعد عملية كهذه، أحتاج فيها حتى من يساعدني على الحركة لمدة شهر كامل، في كفة ثانية، غير أن ثمة مقولة أحبها جدا وتنطبق علي إلى حد كبير إلى درجة أنني أتبناها وأعتبرها مقولتي الشخصية: (الأصدقاء في الغربة وطن)! لم يتركني أصدقائي ولا للحظة، ولم يتركوا ثغرة يمكن أن تسبب لي الحزن أو الكآبة إلا وحاولوا إغلاقها، وسعوا بكل ما في طاقتهم لاستخراج التصاريح لحضور والدتي إلى وبقائها معي حتى شفائي تماما.
هذه الأيام أتذكر كثيرا تلك الفترة العصيبة من حياتي، وكيف اكتشفت ما تفعله بي غريزة البقاء، وهي أولى الغرائز التي تميز الكائنات الحية على كوكب الأرض، كم تصبح نامية ومتوهجة، أتذكر أنني في لحظات استعادة وعيي بعد ساعات طويلة جدا من التخدير، أن كل ما كنت أفكر فيه هو نفسي فقط، وكيف سأقاوم كي أستمر في الحياة، لم يخطر ببالي ولو لحظة، أحد من عائلتي ولا أصدقائي الذين قضوا طيلة وقت العملية حتى طمأنهم الجراح أن كل شيء يسير على أحسن ما يرام، منتظرين في المستشفى، لم أبال بالقلق الذي عاناه أحبائي علي، لم أتذكرهم أصلا، كان الوجود كله ينحصر في هذا الجسد المستلقي على سرير مفرد في غرفة العناية المركزة، والمليء بالندوب والجروح والأنابيب الممتدة منه، وبالروح التي تجعل هذا الجسد حيا: كيف أحافظ عليهما،وكيف أقاوم لأبقى على قيد الحياة، لم يكن أي شيء في العالم مهما خارج هذا الأمر، الأنانية في أعلى تجلياتها وأكثر درجاتها توهجا ووضوحا وحضورا.
مع مرور الأيام لاحقا، اختفت هذه الأنانية التي أظهرها الخوف من الموت والاختفاء، وحل محلها الامتنان للحياة التي منحتني أصدقاء ساعدوني في محنتي، غير أن ما يحدث للبشرية هذه الأيام جعلني أستعيد تلك التفاصيل، وأستعيد نفس الشعور بأنانية الدفاع عن الوجود الشخصي عند جميع البشر، إذ حتى في الدول التي لا تطبق الحظر الصحي الكامل، أو تفرض حظرا جزئيا فقط، حدثت فجوة فجأة في العلاقات الإنسانية بين الأهل والأصدقاء، لا أحد يرى أحدا، والجميع يخاف من الجميع، فالنظرية التي وضعتها منظمة الصحة: (التعامل على أساس أنك مصاب بكوفيد 19 وأن الآخر أيضا مصاب بنفس الفيروس) وفكرة التباعد الإجتماعي الصحية عززت ظهور الأنا وغريزة البقاء لدى الجميع، ولأول مرة في التاريخ الحديث يتم إغلاق مدن ودول بأكملها، وفي بعض المدن تم إغلاق الأحياء وعزلها بعضها عن بعض، ومنع الحظر البشر حتى من السلام على بعد متر واحد على الأقل بين الشخص والآخر، حتى في هذه المسافة الآمنة يحدث أن يراقب الناس بعضهم شذرا، فالآخر حامل مفترض للفيروس القاتل، أي هو بمثابة العدو، ولا أحد يلوم أحدا على كراهية تظهر فجأة نحو عدو مفترض.
في واحدة من أكثر«قصص الفيروس» قساوة رواها طبيب سوري في فرنسا، أن عجوزا أصيب بالفيروس وحالته ميؤوس منها، فأخبره الأطباء بذلك طالبين منه أن ينزعوا عنه جهاز التنفس لمنحه لمريض أكثر شبابا وفرصة بالنجاة، وافق العجوز لكنه طلب من الأطباء الاتصال بولديه ليراهما قبل الموت، وفعلا اتصل الأطباء بولدي العجوز طالبين منهمها الحضور لتوديعه قبل رحيله وتحقيق أمنيته، لكن الاثنين رفضا الحضور رغم محاولة الأطباء تطمينهما باستخدام كل وسائل العزل، يقول الطبيب السوري، إن زميله الفرنسي المعالج للعجوز والذي تكفل بالاتصال بأبنائه اصيب بصدمة نفسية نتيجة القسوة التي لم يتوقعها، لم يحضر الأبناء طبعا لرؤية والدهم، ومات العجوز ودفن دون وجود أحد من عائلته!.
ليست هذه القصة فريدة في يوميات كوفيد 19، بل هي واحدة من عشرات بل مئات القصص التي حصلت وتحصل ليس فقط على مستوى أنانية الأفراد، بل أيضا المجتمعات والدول.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
07/04/2020
1884