+ A
A -
كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا عزم على السَّفر أقرعَ بين نسائه، فأيما واحدة وقعت عليها القرعة صحبها معه! طريقة عبقرية في العدل، تجعل الفائزة بالصُّحبة تنتشي فرحاً، والتي لم تنل شرف الرفقة لا تلُمه، ولا تُحدِّث نفسها أنه قد فضَّلَ ضرَّتها عليها!
وفي إحدى أسفاره وقعت القُرعة على عائشة، وكانت يومذاك لم تزل صغيرة السِّن، فأمرَ الجيشَ أن يتقدَّمَ أمامه، فلمَّا غدا وحده معها قال لها: تعالي حتى أُسابقكِ!
فتسابقا، فسبقته عائشة! ثم سار بها حتى التحقَ بالناس، وعاد أدراجه إلى المدينة.
ومرَّت الأيام، كبرتْ عائشة في السن قليلاً، وزاد وزنها، وكان على موعد مع السَّفر، فأقرع بين نسائه على عادته، فوقعتْ عليها القرعة فصحبها معه، ثم في طريق العودة قال للناس: تقدَّموا
فتقدَّم الناس.. فلمَّا غدا وحده معها قال لها: تعالي حتى أُسابقكِ!
فتسابقا، فسبقها، فجعلَ يضحكُ ويقولُ لها: هذه بتلك!
النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليه مُهِمَّته دعوة البشرية قاطبة إلى الله، ورئيس الدولة الذي عليه تحريك الجيوش، وعقد الأحلاف، ومُراسلة الملوك، وتدبير شؤون الناس، لم يشغله هذا كله عن أن يكون زوجاً، ويُعامل زوجته باللُّطف واللين إلى درجة أن يُسابقها في الصحراء كأنه ليس على كاهله كل هذه المسؤوليات الجسام! أراد أن يُعلَّمنا أن نكون مُتوازنين في حياتنا، لا يشغلنا العمل عن العبادة، ولا تجعلنا العبادة نترك أعمالنا ونتكفَّف الناس! ألا يلتصق المرء بزوجته ويترك دنياه، ولا يلتصق بدنياه فيُهمل زوجته!
إنَّ من مآسينا اليوم أننا نجعل شيئاً واحداً يسرقنا من كل شيء!
تجدُ التاجرَ يقضي نهاره في عقد الصفقات، وجمع الديون، وتسديد الفواتير، فإذا عاد إلى بيته لا يهدأ جوَّاله، اتصال على فلان، واتصال من فلان، لا الزوجة تشعر بقُربه وهي التي تحتاج حنانه ودفأه كحاجتها إلى ماله بل أشدَّ! ولا الأولاد يشعرون أن لهم أباً وسنداً، يحسبُ أن المال الكثير، والأثاث الفاخر، والسيارات الفارهة تملأ غيابه، بينما في الحقيقة هم وجدوا المُعيل وفقدوا الأب، فليس بالضرورة أن يموتَ المرءُ ليُفتقد، يكفي أن يحضر بجسده ويغيب بقلبه وروحه حتى يصبح لا وجود له!
وتجدُ الزوجة مُولعة بالأثاث وترتيب البيت، وهذا شيء جميل بالمناسبة ولا حرج فيه، ولكن أن يصبح الأثاث أهم من البشر، ودورهم حراسته بدل استخدامه فهذا فيه من الحُمق أكثر ممَّا فيه من الترتيب والأناقة!
وتجدُ المُولع بالقراءة متأبِّطاً كتابه في ساعة متأخرة من الليل وزوجته بجانبه تنتظر فقط أن يسألها كيف كان يومها فلا يسأل! القراءة هواية عظيمة، وإنارة العقل مطلب جليل، ولكن القراءة إنما يجب أن تكون على حساب وقتك لا على حساب واجباتك!
وتجدُ المتعلق بأصدقائه، كل يوم خروج وسهر، يُريدُ أن يحيا حياة العزوبية وهو متزوج، يُشعرها أن البيت قفص، وأنها سجَّان، وليس له سعادة إلا فتح باب القفص والخروج منه!
وصل الأصدقاء جميل، ومن الضروري أن يكون للمرء طقوسه الخاصة، ولكن الظلم أن تكون حياته كلها طقساً خاصاً!
تاجر ما شئتَ، واقرأ كما يحلو لكَ، واجعلْ لكَ صُحبة، ولكن تذكَّر أنَّ لك زوجةً وأولاداً وأن أشياء صغيرة لا تُكلِّف شيئاً هي التي تصنع سعادة الآخرين!
اهتمِّي بنفسك، رتِّبي بيتك، ولكن تذكري أن هذه وسائل لإسعاد زوجك وأولادكِ وليست غايات بحد ذاتها، وإلا تحول الأثاث إلى صنم في البيت، له من التبجيل كما كان لأصنام قريش ذات يوم عند الكعبة!
بقلم: أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
19/03/2020
2873