+ A
A -
البشرية في أغرب أطوارها، فبعد أن حولت التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصالات والعولمة العالم إلى قرية صغيرة، وفتحت الآفاق أمام الجميع، وكشفت ما كان مخفيا من الشعوب عن بعضها البعض، وتحول العالم الافتراضي إلى بديل عن العالم الواقعي، أو في الأدق محركا للعالم الواقعي، وطريقته الرئيسية لتبادل المعلومات والخبرات، والتعارف والتواصل، خصوصا مع ما حصل في العقد الماضي من ثورات أنتجت حروبا وتشردا ولجوءا وهجرات، حتى تفتت العائلة الواحدة وتفرقت في أنحاء الأرض،
بعد هذا التحول الذي سببته التكنولوجيا هاهي الطبيعة تستنفر طاقتها لترسل للبشرية فيروسا صغيرا جدا يتسبب في هلع أصاب الجميع أفرادا وشعوبا وأنظمة وحكومات، وتسبب في تعطيل الحياة وشللها، اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياحيا، وفي خسارات مريعة في كافة القطاعات، أما الأكثر هولا وفظاعة فهي العزلة التي فرضها الفيروس الذي وصفته منظمة الصحة العالمية كجائحة تجتاح العالم، حيث اضطرت بعض الدول التي انتشر فيها الفيروس بشكل سريع، وازداد فيها عدد الوفيات إلى إغلاق البلاد على من فيها ومنع التجول نهائيا، واضطرت دول أخرى إلى تعطيل الدراسة والعمل إلى مواعيد غير محددة، وقلصت حركة الطيران والسفر عبر الحدود الجوية والبرية والبحرية، وفرضت بعض الدول على كافة من يدخلها الالتزام بحجر صحي لمدة أربعة عشر يوما، وظهرت تعليمات منظمة الصحة العالمية بخصوص الوقاية كان أهمها منع التلامس والسلام باليد أوالتقبيل والعناق، والاكتفاء بإلقاء التحية بهز الرأس فقط، كل ذلك في سبيل الوقاية من العدوى وانتشار الفيروس، الذي لم يتم حتى اليوم، إيجاد لقاح مضاد له أو دواء يوقف انتشاره أو يحد من آثاره الخطيرة، رغم المحاولات الحثيثة لخبراء الفيروسات حول العالم لا أحد يعرف حتى اللحظة إلى متى سوف يستمر وضع العالم على ماهو عليه اليوم، لا أحد أيضا يمكنه تقدير كم الخسائر البشرية والاقتصادية التي ستنتج عن هذه الكارثة،خطابات زعماء الدول لا تبشر بالخير بهذا الخصوص أبدا، بل لعلها تنذر بالأسوأ، خصوصا مع الأخبار عن تحول اوروبا إلى بؤرة للفيروس بعد أن استطاعت الصين تخطي الخطر الأكبر منه، ولعل سرعة انتشاره في إيطاليا وارتفاع معدل الوفيات فيها عما كان في الصين يدل على مدى الكارثة، كذلك الحال في ما يخص إيران، التي استقبلت وفودا طبية من كل العالم لمساعدتها في تخطي كارثتها، وهو الشيء الوحيد الإيجابي في هذا الوباء: أن تحيد الدول السياسة وخلافاتها وتتوحد لمواجهة ما قد يفتك بالبشرية.
هذه الإيجابية ظهرت أيضا في محاولات الإيطاليين اختراع طرق جديدة للتواصل الفعلي رغم حظر التجوال، عبر اختيار وقت يومي وتعميمه على الجميع حيث يخرج البشر إلى شرفاتهم ونوافذهم ويبدؤون بالعزف والغناء الجماعي بينما أعلام إيطاليا تغطي الشرفات والعمارات والأبنية، وقد فعل الإسبان ما يشبه ذلك، حين اختاروا توقيتا يوميا لتحية الطواقم الطبية التي تعالج المصابين بالفيروس معرضين أنفسهم وعائلاتهم معهم لخطر الإصابة به، وللأسف فقد العديد من الأطباء حياتهم خلال هذه الفترة، وهي خسارات مضافة إلى الخسارات التي سببها الفيروس للبشرية.
أفكر أحيانا أنه بعد أن تتخلص البشرية من فيروس كورونا المتحول ربما ستنتبه أكثر إلى أهمية التواصل الإنساني الفعلي، فالعزلة المفروضة حاليا على الجميع ربما تحيل إلى التفكير بمصير البشرية عموما، وهو ما يتطلب تغيير عادات صارت بمثابة بديهيات في الحياة وعممت الحيادية بين البشر حتى أصبحنا أشبه بالآلات بعد أن تسرب الدفء الإنساني من أرواحنا شيئا فشيئا وغرقنا في الحروب وانقدنا نحو الكراهية والإنانية وفقدنا الرحمة والرأفة لصالح التشفي والشماتة، دون أن يدرك الشامتون أنهم قد يتعرضون لمصائب وكوارث تحيق بهم، هاهو كورونا يفعل ذلك، ينتقل من بلد إلى آخر ويصيب الجميع من أعلى طبقات المجتمعات إلى أدناها، موزعا «عدالته المرعبه» على الجميع، فلا يستطيع أن يشمت أحد بأحد.
هل يمكن لفيروس كورونا أن يكون سببا في إعادة تفكير البشر فيما يجب أن تكون عليه حياتهم؟ وأن تنتبه أنظمة دول العالم إلى الفشل في إدارة أزماتها وإلى الخلل في المنظومة الطبية والصحية السائدة حاليا.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
19/03/2020
1753