+ A
A -
كانتْ غزوة تبوك اختباراً عظيماً للمُسلمين، ليس لأنها كانتْ غزوة مفصلية في تاريخ الإسلام فهي لم يحدث فيها قتال أساساً! وإنما كانتْ اختباراً عظيماً لأن الظروف وقتها كانتْ كلها بخلاف هوى النفوس، وبعكس ألفِطرة التي فطر الله سبحانه الناس عليها، فالفصل صيف، والصحراء في الصيف لظى! الشمسُ حارقة والرمالُ مُلتهبة! ناهيكَ أن المسير طويل فهي الغزوة الأبعد في تاريخ غزوات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فالمسافة بين المدينة وتبوك تقريباً 630 كلم! وما زاد الطين بلةً هو أن بيت المال كان وقتها فارغاً فلم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يملكُ المال لتجهيز الجيش لذلك عُرف ذاك الجيش في كُتب السيرة بجيش العُسْرَة!
وكان من الطبيعي والأمرُ كذلك أن يحُثَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أغنياء المُسلمين على الإنفاق لتجهيز الجيش، فجادوا ولم يُقصِّروا، غير أنَّ تلك الغزوة كانت غزوة عُثمان بن عفان بامتياز، فعُثمان الثريُّ عَلِمَ أن الوقت وقته، وبيقين المؤمن الذي يعرفُ أنه وما يملكُ لله، تبرَّع للجيش بتسعمائة بعير، وخمسين فرساً، وحملَ ألفَ دينار وتوجَّهَ إلى المسجد حيث كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم جالساً يستقبل مُساهمات الأغنياء، فنثرها في حِجره! فجعلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُقلِّبُ دنانير عثمان بين يديه ويقول: ما ضرَّ عُثمان ما فعل بعد اليوم!
الفكرة أن أسمى عبادة هي تلك التي تكون من جنس النِّعمة!
قيام الليل نافلة عظيمة، ولكن عبادة الأغنياء الأسمى ليست في قيام الليل وإنما في الصدقة، وإعانة المساكين، ومساعدة المديونين، والإنفاق على دور التحفيظ!
وصيام التطوع نافلة عظيمة، ولكن عبادة الأئمة الأسمى هي في قول الحقِّ ولو على قطع الرقبة، فإنَّ الناس إذا وقعتْ ألفِتن، والتبسَ الحقُّ بالباطل، نظروا إلى علمائهم ليروا رأيهم، ويصطفوا باصطفائهم، وإن وقوف الإمام أحمد في وجه المأمون، ومن بعده في وجه المعتصم في فِتنة خلق القرآن أهم وأعظم من صيام ألف يوم تطوع، لأنه بكلمة الحق التي قالها حَفِظَ دين وعقيدة ملايين المُسلمين!
إنشاء الطرق للناس، وتأمين الرَّفاه الاقتصادي، ومجانية الاستشفاء والتعليم عمل نبيل من الحاكم تجاه شعبه، ولكنَّ عبادة الحاكم الأسمى هي في تحكيم شرع الله، والدفاع عن حُرمات المسلمين وديارهم!
إقامة مستوصف يُعالج الناس بالمجان عمل نبيل تُرفع له القُبعة، ولكن عبادة المفكرين والأدباء الأسمى هي تنوير عقول الناس، والدفاع عن عقيدتها، والذَّود بالحبر عن حِياضِها، ففي الملمَّات يُوازي حبر الأدباء دماء الشهداء إن كتبَ حقَّاً، وقال حقَّاً!
?نظُرْ إلى النِّعمة التي أعطاك الله إياها، تأمَّلْها جيداً، تعرِف العبادة الأسمى لكَ!
إن كنتَ غنياً لا تكنز مالك وتُعزِّي نفسك بنوافل العبادات، ما يُقبل من الفقير لا يُقبل من الغني! وإن كنتَ صاحب محراب ومنبر لا تَخَف برأيك وتُعزِّي نفسك بعدد المُصلِّين وراءك، إن الأئمة كالمظلات للناس والناس لا يحتاجون المظلات إلا وقت العواصف والمطر! وإن كنتَ صاحب فكر وقلم، فلا تُعزِّي نفسك بعدد قُرائك ونُسخك التي تبيعها، عبادتك الأسمى أن تقول ما يجب أن يُقال، أن تكون لصيقاً بهموم أمتك، لا تكُن مُهرِّجاً كالداعية الذي يوم كانت تُقصف غزة وحلب كان يُحدثنا عن حُكم المسح على الخُفين!
بقلم: أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
20/02/2020
3433