+ A
A -
قبل أكثر من خمسة عشر عاما كنت مدعوة إلى ملتقى ثقافي شعري في عاصمة من كبرى العواصم الأوروبية وأكثرهن غلاء، برفقة مجموعة من الشاعرات والشعراء العرب، كنت ذاهبة وقتها من دمشق، حيث كنت أعيش وأعمل كموظفة في مؤسسة تابعة للدولة، وأكتب مقالات قليلة ومتفرقة في إحدى الصحف السورية الثلاث، كان دخلي لا يكفيني، مع ابنتي التي كنت أربيها وحدي، لنكمل منتصف الشهر، كحال ملايين السوريين من الطبقة الوسطى في ذلك الوقت، ولم يكن الأمر يسبب لي أي حرج أو خجل، كنت أتحدث عن وضعي المعيشي بمنتهى الشفافية، وبالنسبة لي لم يكن هذا شأنا خاصا، بل هو شأن عام ويمثل حال سوريا في ذلك الوقت، فمن كان من أبناء الطبقة المتوسطة ثم انتقل إلى طبقة اجتماعية أعلى دون مبررات موجبة وموضحة لحالته، فهو حتما دخل في دائرة الفساد المالي والإداري والعائلي، التي عرف النظام السوري كيف يكرسها ويعممها على مجموعات باتت هي بطانته والمدافعة عنه.
الفندق الذي نزلنا فيه، في العاصمة تلك كان في وسطها، في قلب سوق تجاري ضخم، أذكر أن صديقا شاعرا سألني يومها، ونحن نجلس جميعا على مائدة الغداء إن كنت قد ذهبت للتسوق واستغلال فرصة التنزيلات الموجودة في الأسواق، استغربت الفكرة يومها، فالصديق يعرف وضعي المادي جيدا، ويعرف أنه من المحال أن أتمكن من شراء أي شيء من عاصمة أوروبية، فجاوبته أمام الجميع أنني طبعا لم أفعل ولا أستطيع أن أفعل ذلك، فأنا معتادة على شراء ملابسي من محلات الثياب المستعملة في دمشق، وهي المحلات المناسبة لمن في وضعي، أذكر أن الغالبية فوجئوا بكلامي، بعضهم ابتسم وبعضهم أيد الكلام والبعض اكتفى بالصمت، فجأة تلتفت إحدى المدعوات معنا إلى الصديق الذي سألني السؤال وتخبره بصوت عال، ودون أية مقدمات، أنها «معروفة بين أصدقائها بالأناقة وأنها لا تلبس سوى من الماركات المشهورة عالميا، الماركات التي لا تليق بصاحبات الأجساد الممتلئة»، طبعا لم يحتج الأمر كثيرا ليدرك الجميع أنها تحاول التشاوف عليَّ بطريقة فجة، خصوصا أنني لم أكن من ذوات القامات الممشوقة أبدا، هنا ينبغي أن أخبركم أنها كانت ذلك الوقت متزوجة من رجل فاحش الثراء. ولا أنكر أن كلامها كان صادما لي وترك أثرا سلبيا لا أنساه، إلا أن الحادثة التي بقيت في ذهني حتى الآن، كانت دالة على انعدام الحساسية لدى الكثير من البشر، انعدام الحساسية والتشاوف بما ليس لهم للتعالي على آخرين لا يملكون نفس الأوضاع ولا يعيشون نفس الظرف، كانت تلك الحادثة بمثابة درس كبير لي لأنتبه إلى سلوكي وإلى ما ينبغي قوله كي لا أسبب حرجا لأحد، أو كي لا أجعل أحدا يضطر إلى مقارنة وضعه بي ويتأسف على حاله.
عادت لي هذه الحادثة خلال الأيام الماضية، إثر الانتفاضة التي حصلت في مدينة السويداء السورية، والتي سببها الانهيار الاقتصادي المريع، والغلاء الجنوني للأسعار، والجوع الذي طال غالبية السوريين في داخل سوريا، حيث امتلأت صفحات التواصل الإجتماعي بالاستعلاء الثوري والتشاوف على المنتفضين في مدينة السويداء، من (ثوار) يعيشون في بلاد الأمان والحريات والحقوق، ويدعون أهل السويداء وسوريا للمطالبة بإسقاط النظام، مستهزئين من مصطلح (إضراب الجوع)، فبالنسبة لهم الثورة هي كما كانت في 2011: ثورة الكرامة، متجاهلين أن الثورات التي انتصرت في العالم عبر التاريخ كانت ثورات الجياع، ومتجاهلين الأوضاع المزرية التي وصل لها السوريون داخل سوريا بعد سنوات طويلة من الحرب والحصار والانهيار الاقتصادي، ومتجاهلين أن أجيالا جديدة كبرت داخل سوريا تحمل قيما جديدة وأحلاما جديدة، ومتجاهلين، وهوالأهم، أن النظام السوري ما زال حنى اللحظة يعتقل ويخفي ويقتل كل من يطالب بإسقاطه، وأن المطلوب حاليا بقاء الناس على قيد الحياة وحراك منظم لتجاوز الأخطاء الفادحة والقاتلة التي حدثت في 2011، غير أن الفداحة الكبرى أن غالبية هؤلاء الذين يهزأون من حراك أهل السويداء لا ينتمون لثورة 2011 بصلة إلا كونهم استفادوا من الثورة وتمكنوا من الحصول على اللجوء في بلاد العالم الأول، حيث الأمان، وحيث أوضاعهم المادية والنفسية والحياتية مستقرة، ولقمة عيشهم وتعليم أبنائهم مضمون، وحيث يمكنهم قول كل ما يريدون دون خشية الاعتقال أو المحاسبة، ينقصهم القدرة على وضع أنفسهم مكان الآخرين فقط، والحساسية في التعامل مع من ظروفهم لا تتشابه، والخجل قليلا في التعامل مع الداخل السوري، والتخلي عن ذلك التعالي الثوري الخلبي، عل الجميع يتمكنون من إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
21/01/2020
1832